حكامنا العرب .. وصناعة الهيبة

08/03/2021

كتبت: نسيبة دراجي

استعمار ... احتلال ... استقلال ...أرى هذه الكلمات متشابهة جداً رغم عكس معانيها في وطننا العربي ، فبعد ما يسمى بالاستقلال كانت جموع الشعوب العربية على قناعة تامة بأن الحكومات والأنظمة التي قاموا بانتخابها تحمل لهم ما حُرموا منه من خير وعدل وصلاح .. الخ ، إلى أن حال هذا اليقين بعد سنوات "طويلة أم قصيرة " ، مدى بُعد هذه الأنظمة عن تحقيق أمانيهم، نعلم أننا مستعمرون ومحتلون من قبل حكوماتنا العربية لمصالح امبريالية...استعمارية...صهيونية ، ونعلم أيضاً أننا لا نخاف الاستعمار والاحتلال بقدر ما نخاف ونهاب ونرهب حكوماتنا ، هذا الخوف المؤدلج الذي نعلم سببه جميعاً ولكننا أيضاً نخاف أن نفصح به حتى بيينا وبين أنفسنا، خوفٌ نابع من ذل وخنوع واستكانة وانتقام ، فالفكرة هنا نابعة من أن أعداد العرب الذين قتلوا وحرموا الحياة وحتى الحق في التعبير يفوق بكثير أعداد العرب الذين قتلوا وحرموا الحياة وحتى الحق في التعبير على يد المستعمرين والمحتلين .

"الإنسان من الدولة"

في الدول الطبيعية تكون الدولة هي المسؤولة مسؤولية كلية تامة عن الفرد "الإنسان" الذي يشكل عامود الدولة لأنه هو الأساس ، ويجب عليها حمايته ، لأنها تعرف أن هذا الفرد سيتولى حمايتها هي في كافة المجالات.
أما في وطننا العربية فصناعة هيبة الحاكم هي الأساس الذي تقوم عليه الدولة ، دون الإكتراث بالفرد ، وهذا من الطبيعي جداً ، وهنا سنطول في الحديث قليلاً .
فالدول العربية بأفعالها أعادة الإنسان العربي إلى مادة خام أو مادة أولية يتركب منها وعيه الذي يرافقه انفصال عن مكوناته ، فجعلت هذه الحكومات "الإنسان العربي" كالبهيمة لا يفكر إلا بطعامه وشرابه فقط ، فمنذ أكثر من خمسين عاماً وحكوماتنا تقيدنا وتحسرنا داخل السور الذي لم نعد نرى من خلفه شيئاً قط ، وفي داخل كل فرد منا اعتراف كامل بأن "الاستقلال الجاهل كان أكثر شراً من نقمة الاستعمار" .
وإن كل هذا يقودنا إلى شيءٍ واحد يمكننا من خلاله أن نبرهن فيه خوف الحاكم من الفرد ، وإنّ زرع كل أشكال الخوف والرعب داخل نفس الفرد هو أنّ وصول حُكامنا إلى السلطة لا يتم إلا بانقلاب عسكري ، ولهذا يظل الحاكم العربي قلقاً خائفاً أن يُفعل بِهِ ما فعله هو بغيره ، و إن أول الإجراءات الوقائية التي تتبعها السلطات بتوجيهات من الحاكم ، هي التدخل القمعي من باب الإرهاب القمعي كما يقول الكاتب ممدوح عدوان .
فالسبيل الوحيد الذي تتبعه حكوماتنا هو سبيل الخوف وزعزعة الثقة بالنفس، فلو وثقت حكوماتنا وزعمائنا بأنفسهم لما احتاجو إلى هذا التدمير النفسي الممنهج، فالحكومات الخائفة تمارس أقسى أنواع البطش .
يقول الدكتور "إمام عبد الفتاح إمام" في كتاب "الطاغية" عن كيفية محافظة الطاغية على حكمه وسلطته:
"اولاً عليه أن يدمر روح المواطنين وزرع الشك وانعدام الثقة فيما بينهم وجعلهم عاجزين عن عمل أي شيء ، وبذلك تعويد للناس على الخسة والوضعية والعيش بلا كرامة بحيث يسهل عليهم أن يعتادوا الذل والهوان.
ثانياً : القضاء على البارزين من الرجال .
ثالثاً: منع التجمعات .
رابعاً: حظر التعليم.
خامساً: إغراء المواطنين بأن يشي بعضهم بعضاً .
سادساً : افقار رعاياه برفع الضرائب وتقليل الدخل مثلاً.
حتى ينشغل المواطنون بالبحث عن قوت يومهم فلا يجدون عندهم من الوقت ما يتمكنون فيه من التآمر عليه ."
كل هذا أحالنا لأن نكون دُمىً آليه، تجعلنا دائماً ضحايا، فجرح الإنسان العربي الحرّ عميقٌ ... عميق وقد لا يلئم .

"مَن نحن .. ومَن سنكون ".

نتسأل هنا أنه متى يجب علينا أن نصحوا... متى يجب علينا أن نكسر الحاجز ونطرق جدار الخزان.. لكي نحيا ونعيش كإنسان حرّ كما خلقه الله حرّ ، وكما يجب أن يكون حرّ ...، أعلم جيداً أن حريتنا مشروطة بفكرة اغتيال الحرية من أنفسنا، ولهذا دائماً ما نلحظ أن أغلب المفكرين والمثقفين الذين ينتقدون الحكومات هم خارج أوطانهم، أو أنه تمت تصفيتهم واغتيالهم لأن هذا العقل والفكرة يشكل خطراً كبيراً ومن المحرمات طرحها أو التحدث بها، وأن ثورتهم على حكوماتهم هي ضرب من الجنون وفي نظر حكوماتهم : "أن لهم المجد ولكنهم دائماً ضحايا " .
فهم بأسلوبهم يطبقون مقولة توكفيل " لا يمكن اشتقاق مجتمع حر من مجتمع للعبيد " ، والذي يمكن صوغه عربياً :" أنه لا يولد مجتمع حر غير تابع من مجتمع الشيء الوحيد فيه أن سلطته تتقن تبديل الناس إلى عبيد " .
ولكن علينا أن نعي تمام الوعي أن حكوماتنا هشة ضعيفة ، يخيفها اجتماع الشعب ولو على مباراة لكرة قدم .

"ماذا بعد الربيع العربي "

كثير منا قد تكونت داخل عقله صورة كاملة عن الربيع العربي فثوراته في جميع الدول العربية عدا "تونس" حوّلَ مسارها من ثورات تنادي بالديمقراطية إلى ثورات هدم ، فالديمقراطية التي خرجوا من اجلها استُغِلت في بعض الدول ، وأن السبب الذي تريد حكوماتنا أن توهمونا به : "أن هدف هذه الثورات انتقامي وليس اصلاحي" ، فأمسى ربيعنا العربي خريفاً ، عشر سنوات وأكثر منذ انطلاق الشرارة، لحظة لم تُستغل في بعض الدول للأنسب، ويتضح يوماً بعد يوم بأن أحوالنا تنتقل من أسوأ إلى أسوأ، فلا ديمقراطية تلوح بالأفق ولو لحتى ساعة ، ويمكن أن نشبه الربيع العربي بالمسلسل الذي لا توجد له حلقة أخيرة .

بدأنا الكلام في هذا العنوان الفرعي عن تونس التي هي نموذجاً لا يمكننا أن نجادل عليه، فثورة الياسمين بمحاسنها ومساوئها كانت الأنجح مقارنة بثورات الدول الأخرى ، ولكن الثورة التونسية استثناء للأسف، والاستثناء لا يمكن القياس عليه .

ثمار الربيع العربي المنتظرة لم تزهر كما كانت توقعات الشعوب العربية ، فظهر مصطلح " الشتاء العربي" وهو عنوان كتاب للكاتب الاميركي "نوا فيلدمان" الذي صدر عام 2019 فيقول في الكتاب بما معناه : " إن نجاح ثورات الربيع العربي كانت لتتم ، لولا هناك عسكرة ، وظهور للتطرف الديني واندلاع للحروب والنزاعات " ، إلى هنا ينتهي القول ، ولكن لِم لم تظهر "داعش" والتنظيمات المتطرفة الأخرى إن لم يكن وراءها دعماً من حكومات عربية لتحويل مسار الثورات التي أُجهضت، وإبقاء مصالحها على حساب الإنسان والدم والدمار ، ولا شك في أن حقائق الربيع العربي وصناعة داعش ستكشف مع مرور الوقت ، وسيبقى الربيع العربي من أهم الاحداث المأسوية في تاريخ العالم الحديث .

في النهاية لا يسعني القول إلا أن الصورة مهما تغيرت، إلا أننا نحتاج أولاً وأخيراً إلى تغير الجوهر .
يقول محمود درويش في قصيدته العصماء {خطاب الديكتاتورية الموزون}
سأختار شعبي
سأختار أفراد شعبي
سأختاركم واحداً واحداً مرة كل خمس سنوات
وأنتم تزكونني مرة كل عشرين عام وإذا لزم الأمر مرة للأبد .