بلوطة البرتغال يبدو أنها أغلى من زيتونة "بني زيد"

20/02/2021

وطن للأنباء- سعد داغر: بلوطة البرتغال، منتجة الفَلِّين لا يُسمح بالاعتداء عليها ولا بأي شكل. لا يمكن أن تقلّمها إلا بإذن، ولتقليمها تعليمات صارمة، تتعلق بقطر الفرع الذي تنوي تقليمه أو قصه، مسافة القص عن الفرع أو الساق الرئيسي، بل تعليمات تتناول زاوية القص.

هل بمقدورك قص بلوطة أو تملك الجرأة لفعل ذلك؟ ربما، حسناً ليكن بعلمك! عليك أن تتحمل التبعات، فبعض الأشجار قد تزيد مخالفة قصها عن عشرة آلاف يورو على أقل تقدير، ولن تستطيع تنفيذ الهدف الذي من أجله قطعت تلك الشجرة، لن تحصل على الإذن، سواءً لبناء بيت، أو شق طريق، أو إنشاء إسطبل خيل.

حتى الشجرة الميتة!

لبلوطة البرتغال قدسيتها، ورغم عدم التغني بها وكتابة الشعر فيها كما نفعل نحن مع الزيتونة الفلسطينية، ورغم عدم اعتبارها رمز الصمود لشعب البرتغال على أرضه فيما نتغنى بزيتونتنا رمزاً للصمود الذي ننتهكه، لكن البلوطة مقدسة وهناك قانون يرعاها ومؤسسات تسهر على عزها وبهاءها، لذلك صمدت.

بلوطة البرتغال بقيت صامدة محمية لأن هناك من طور القانون ليحميها، فالقانون مادة مكتوبة يضعه البشر لخدمة هدف، لحماية شيء أو تنظيم علاقات؛ وهو مادة غير جامدة، بل متطورة وفق الحاجة، والحاجة هنا حماية نوعٍ من الأشجار الطبيعية. إذن صرامة القانون حفظت الشجرة وحافظت عليها من منشار الحطابين أو صاحب الأرض.
ولولا أن الدولة والأجهزة المختصة تسهر على تطبيق القانون، لما بقيت بلوطةٌ تنتصب هناك، ولذهبت أخشابها إلى مواقد الناس سعياً وراء الدفء.

شتاؤهم في البرتغال كشتاءنا في فلسطين، ببرده وأمطاره وريفنا ومواقد المدن والريف، لكن في موقدهم لا تجد خشب البلوط، فمن يجرؤ على التطاول على تلك البلوطة الشامخة؟ حتى وان ماتت شجرة البلوط وبقيت واقفة بلا حياةٍ تدب في عروقها، أو حتى لو سقطت على الأرض فلن يستطيع صاحب الأرض إزالتها إلا بإذن وضمن إجراءات محددة، بعد أن تزوره لجنة وتعطيه الإذن لإزالة “بلوطته” الميتة.

ولكل ذلك ترى في البرتغال أشجار بلوط ماتت وسقطت أو اقتلعتها عاصفة، لكنها ما زالت مكانها، لأن الإذن بإزالتها لم يصدر بعد.
مناشير الحطابين لا تجرؤ على المساس بالبلوطة تحت أي ظرف، حتى التي سقطت بعاصفة أو ماتت بفعل حشرات، ولا حتى صاحب الأرض أو المزارع بإمكانه إزالتها، هكذا تمت حماية ذلك الرمز الذي يعطي الفلين، فما بال زيتوننا العريق منتج الزيت الذي "يكاد يضيء حتى لو لم تمسسه نار"، المتجذر من مئات وآلاف السنين، يتعرض لكل صنوف الجريمة، من مجرمين لا هَمَّ لهم سوى جمع المال بعد سلخ الشجرة عن الأرض. حطابون مجرمون يرتكبون جريمتهم حتى في أرضٍ ليست أرضهم وبحق شجرٍ ليس شجرهم، بلا إذنٍ ولا تصريح!

ملِكٌ لكل هؤلاء

زيتون بني زيد* أصبح منكوباً، ينتظر من يوقف الجريمة، فمتى ستبدأ عملية الإنقاذ؟ من ذا الذي سينتصر للزيتونة المعمرة وينقذها من مناشير لصوص الحطب، كما تتم حماية بلوطة البرتغال؟
أكثر من ألف شجرة معمرة في منطقة بني زيد قُضي عليها ولا تحرك رسمي لإنقاذ ما تبقى من الأشجار “الجدات”، والسبب: قصور في القوانين، وتلكؤ في تطبيق الموجود منها.

عقوبات لا ترقى لحجم الجريمة ولا تشكل رادعاً يوقف هؤلاء اللصوص عند حدهم. مشكلة بعض الأشجار أن أصحابها غائبون عن البلد، وربما الأرض غير معتنى بها، مما يجعل اللص المجرم يعطي لنفسه المبرر لقطع شجرة عمرها مئات السنين، لأن لا أحد سيشتكي، وشجرة الزيتون لا يصل أنين صوتها لآذان المُشَرِّع. وطالما لا يشتكي أحد وطالما تسقط الزيتونة دون أن تصرخ ستستمر الجريمة، فالجهات الرسمية والبلديات تريد شكوى من صاحب الأرض، الذي يتعين عليه أن يثبت مِلكيته للأرض لتأخذ الشكوى مجراها، ثم ماذا تكون النتيجة في المحكمة؟ عقوبة لا تردع! وبالتالي تستمر الجريمة!

وبهذا المستوى من الإجراءات كأن لسان حال الجهات المختصة يقول للمجرم "أكمل جريمتك، فالقوانين تحميك". قصور في الفهم، وقصور في معرفة قيمة الزيتونة، التي تلف التجاعيد السوداء ساقها وتحمل على جذعها جروح الزمن. إنها ليست ملك صاحبها الحالي، بل امتداد لإرث الأجداد.

الزيتونة هي ملك الأرض التي تحتضنها، ومِلك طائر أبو زريق والحمامة البرية التي تبني لها عشاً تُشابكه بين أغصانها، ملك ذاك الغزال الذي يرتاح في قيلولته في ظلها، هي ملك الشعب الذي مضى والذي سيأتي وملك الجبال الشامخة والسهول الوادعة.
هي مِلك الشمس ترسل إليها شعاعها ومِلك قفير نحلٍ يستقر في بطنها ليجني رحيق أزهار الأرض، هي مِلك السناسل التي تحمي تراب الأرض الذي يخبىء ماء المطر في جوفه لينعش جذورها ويشعل جذوتها نحو القادم من مواسم الزيت. هي ملك أزهارها وثمارها، أغصانها وجذعها وجذورها، هي مِلك ذاتها لا منشار حطاب مجرمٍ سارق.

زيتونة شاهدة على حروب فلسطين وسلامها، على غزل شبابها وبناتها يسترقون النظرات ودقات القلوب بينما يقطفون حباتها،شاهدة على إبريق شاي الفلاح وقطعة الجُبن وصحن الزيت وحبات الرصيع.

شاهدةٌ على فأس الفلاح ومحراثه؛ وتشققات كفيه ترتوي بحبات عرقٍ تسير بين أودية تجاعيد خَدَّيه، هي مِلك تلك الفلاحة أم الأرض وسيدتها، المُزنرة بحزامها لتشبك به ثوبها عندما ترعى الأرض.
الزيتونة هي حامية شجرة التين والعنب واللوز والمشمش الذي تحتضنه بين امتداد زيتونة وزيتونة، حامية تاريخ الكنعانيين والفنيقيين ومستقبل فلسطين، هي ذاكرة القصص والحكايا، حكايا الفلاحات، هي حاملة "الحِذْلِ" (أرجوحة الأطفال المصنوعة من حبال وكيس).

"الجدة" تحتاج التقدير

إن معاقبة من يقطع شجرة يجب أن لا تحتاج شكوى من صاحبها ضد المجرم، بل يجب أن يحميها القانون بلا شكوى من أحد ضد ذاك المجرم، فالاعتداء عليها يجب أن يُسجل اعتداءً صارخاً على حقٍ عام، حق الدولة وحق الشعب الحاضر ومن سيأتون، لتأتي العقوبة من السلطة الحاكمة بحجم الجريمة، بغض النظر عن مكان وجود الشجرة، وحتى لو كان صاحب الشجرة يريد قطعها، فعليه أن يأخذ إذناً بذلك، إذناً يكون من غير السهل الحصول عليه وإلا، فالنتيجة حتماً ستكون كما حصل مع شجر السدر في أريحا والأغوار، الذي كان عمره مئات السنين وكان مصيره حطباً في أفران الخبز في الخليل.

كم قانون وتشريع صدر في غياب جسم التشريع عندنا؟ لماذا لا تصدر القوانين التي تحمي إرثنا الزراعي لتحمي زيتونة بني زيد وسهل مرج ابن عامر الذي ينهشه غول البناء بلا رادع؟ لماذا نقضي على مقومات الإنتاج الزراعي الغذائي بأيدينا؟ ألا تستحق هذه الثروة الزراعية التاريخية الثقافية الإقتصادية السياسية قانوناً يليق بها ليحميها من عبث الإنسان وجهله وجشعه؟
ألا تستحق لجنة زراعية فاعلة في كل بلدية ومجلس قروي تكون قرارتها ذات هيبة لتحميها؟ ألا تستحق أرض الزيتون لجان حماية تحمي الأرض الزراعية ويكون فيها من هم بضمائر حية وذوي علم ونظرة للمستقبل؟

قد يكون للقرى والبلدات الفلسطينية في "سلفيت" مثالاً بلجنتها الزراعية، تحت مظلة البلدية، التي تحمي الزيتون، وتتعاون مع الجهات الرسمية المختلفة بتنسيق كامل، فهي لم تشهد منذ عقود أي اعتداء على شجرة زيتون بالقطع، وما زال فيها حارس الأرض يعمل على مدار العام (المُخَضِّرْ)، وبذلك ترعى اللجنة القطاع الزراعي في سلفيت عامةً وشجر الزيتون خاصة، وهي من يحدد موعد قطف الزيتون وتجمع المساهمات من منتجي الزيت لاستمرار عمل اللجنة على مدار العام.

وربما سيكون من أفضل الخدمات التي يمكن أن ترعاها وتعممها الوزارة المسؤولة - وزارة الزراعة- في الريف الفلسطيني هو تعميم تجربة "قلم الزيت" في سلفيت، هذا المنهج الذي ما زال يعمل منذ مئة سنة حتى اليوم، أثبت قدرته على صون قطاع الزيتون خاصة والقطاع الزراعي عامة في تلك البلدة الزيتونية بامتياز.

كل حطاب يجب أن يحصل على رخصة، ويكون من غير السهل الحصول عليها. كل كوم حطب يجب أن يُسأل صاحبه عن مصدره ويثبت أنه لم يتجرأ بالاعتداء على الشجر، خاصة الزيتونة-الجدة، بل يجب أن يأخذ الإذن بالتقليم الجائر وتحت إشراف الجهة المعنية بحيث لا تُترك الأمور- بالتعبير الدارج- "سبهللة"، ويُلقى بالحبل على الغارب.

أما لقب "الجدة" هنا فأطلقه على الزيتونة لأنها كالجدة، تحتاج منا للرعاية والصبر والحنان والتقدير والإنصات لآهاتها وحب تجاعيد وجهها، فبلوطة البرتغال ليست بأغلى من زيتونة بني زيد.

*بني زيد: منطقة تضم قرى وبلدات في وسط الضفة الغربية مثل قرى بني زيد الغربية (النبي صالح، دير غسانة، بيت ريما، قراوة بني زيد، كفر عين، عابود …..) وقرى بني زيد الشرقية (كالمزارع وعارورة وعبوين ….)

 

خاص بآفاق البيئة والتنمية