مآلات قرار الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية المتعلق بالولاية الإقليمية القضائية على فلسطين

07/02/2021

 

كتب: د. ثائر العقاد

مرت عقود طويلة وفلسطين بقعة عمياء في محراب العدالة الجنائية الدولية، تُرك فيها الاحتلال الإسرائيلي يرتكب أبشع وأشد الجرائم الدولية خطورة بدون أي محاسبة ومساءلة، مما عزز من شعور اليأس والإحباط لدى الشعب الفلسطيني في إمكانية إنصاف الضحايا وتقديم مقترفي الجرائم الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة لميزان العدالة ،وفي سبيل هذا الهدف خاضت فلسطين مسارات معقدة ومتشعبة في المحكمة الجنائية الدولية ( أنشئت بموجب نظام روما الأساسي في عام 1998 ودخلت حيز النفاذ في الأول من يوليو2002)،  بهدف الانضمام لهذا الجسم القضائي الجنائي الدولي، الذي يولي اهتماماً للضحايا ويعاقب الأشخاص المسئولين عن ارتكاب الجرائم وفق آليات تراتبية معينة.

ومن باكورة هذه المسارات والمحاولات لولوج نظام روما الأساسي، ما حدث بعد حرب غزة (2008،2009)، والتوجه في ذلك الوقت كان يعتمد على إعطاء الاختصاص للمحكمة في الأراضي الفلسطينية وفقاً للمادة (12) فقرة (3) من نظام روما الأساسي، ولكن هذا الطلب قوبل بالرفض لاعتبارات تتعلق بالوضع القانوني لفلسطين في الأمم المتحدة، ولكن حدث بعد ذلك تطور هام واستراتيجي رفع من مكانة فلسطين في الأمم المتحدة، و كان له تأثير كبير على عضوية فلسطين في المحكمة الجنائية الدولية.

• قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 19/67 الصادر في 29 نوفمبر2012:

يعتبر هذا القرار من أهم القرارات الدولية في تاريخ القضية الفلسطينية، ليس لكونه أحدث تغييراً في المركز القانوني لفلسطين في الأمم المتحدة، ورقى عضويتها من كيان غير عضو إلى دولة غير عضو فحسب، بل للآثار المهمة التي تولدت ونشأت بموجبه، والتي أتاحت لدولة فلسطين الانضمام للعديد من المنظمات والاتفاقيات الدولية، وكان من ضمنها بالتأكيد الانضمام إلى نظام روما الأساسي، وهي خطوة فارقة وحاسمة في مسار معقد متشعب وطويل يهدف لتحقيق إنصاف حقيقي للضحايا ولمنع سياسة الإفلات من العقاب على الجرائم الإسرائيلية المرتكبة في فلسطين، فكيف كانت آليات الانضمام وما هي تبعاته :

• انضمام فلسطين للمحكمة الجنائية الدولية، آليات وتبعات :

كما ذكرنا سابقاً يعتبر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 67/19 النقطة المفصلية والمرتكز الرئيس الذي استندت عليه فلسطين في الانضمام للمحكمة الجنائية الدولية، ومما زاد من ضرورة هذه الخطوة الجرائم التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في الحرب الطاحنة والمدمرة على قطاع غزة في عام 2014، والتي أسفرت عن حصيلة كبيرة من الآف الضحايا ما بين شهيد وجريح، وعشرات آلاف البيوت المدمرة بفعل القصف الجوي العنيف في انتهاكات صارخة لقواعد القانون الدولي الإنساني، وثبوت ارتكاب جرائم حرب برسم تقارير دولية.

حيث حدت هذه الجرائم والفظائع المرتكبة في غزة إلى أن تقدم فلسطين بتاريخ  1 يناير 2015 إعلاناً بموجب المادة 12 (3) من نظام روما بقبول اختصاص المحكمة في الجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 13 يونيو /2014، وتبع ذلك في اليوم التالي انضمام فلسطين إلى نظام روما وإيداع صك الانضمام إلى الأمين العام للأمم المتحدة، ودخل نظام روما حيز النفاد بخصوص فلسطين في 1 أبريل 2015 لتصبح العضو 123 في المحكمة، ونتيجة لهذه الخطوات الفلسطينية أعلن المدعي العام للمحكمة فتح تحقيق أولى في حالة فلسطين بتاريخ 16 يناير 2015، لتبدأ مرحلة جديدة يستكشف فيها المدعي العام وجود أسباب وحالات تستدعي فتح تحقيق في فلسطين، وفي خضم هذا التحقيق الأولي تلقى المدعي العام عدد كبير من الملفات والمذكرات المتعلقة بجرائم إسرائيلية في فلسطين (منها مثلاً ملف الاستيطان، ملف الحرب على قطاع غزة2014 )، وفي نهاية المطاف توصل بعد أربع سنوات من الفحص والتقييم إلى وجود أساس معقول للشروع في التحقيق نظراً لارتكاب جرائم حرب في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولكن في سبيل هذا الغرض طلب المدعي العام من الدائرة التمهيدية الأولى إصدار حكم قضائي بشأن نطاق الاختصاص الإقليمي للمحكمة بموجب المادة  12(2) (أ) ، وكان الهدف من ذلك الطلب تأكيد أن الأرض الفلسطينية المزمع التحقيق في الجرائم المرتكبة فيها( تشمل الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية). 

وفي 28 كانون الثاني/ يناير2020 أصدرت الدائرة التمهيدية الأولى أمراً يحدد الإجراءات والجداول الزمنية لتقديم الملاحظات من الدول والمنظمات والضحايا على طلب المدعي العام بموجب المادة 19 (3) من نظام روما الأساسي، وفي سياق ذلك قُدمت العديد من المذكرات أمام الدائرة، ودارت معركة قانونية شرسة ما بين أنصار الحق الفلسطيني وداعمي الاحتلال الإسرائيلي، حول مدى تمتع فلسطين بصفة الدولة التي يحق لها الانضمام للمحكمة، و أصدرت الدائرة في 5/2/2021 القرار المنتظر والمتعلق بانطباق اختصاص المحكمة على أراضي دولة فلسطين.

فما هي حيثيات هذا القرار، وعلى ماذا أستند ، وماذا تضمن، وما هي الخطوات المقبلة؟!

• بلا شك ما حدث يعتبر لحظة فارقة في أروقة المحكمة الجنائية الدولية، وخطوة لها ما بعدها من أبعاد ومآلات قانونية تتعلق  بالوضع في فلسطين، وهذا الحكم القضائي تتطرق لعدة أمور، من أهمها:

- قرار الجمعية العامة 19/67 كان من ضمن عدة قرارات دولية استندت عليها الدائرة في تعزيز قناعتها بتمتع فلسطين بصفة الدولة وفق أغراض نظام روما.

- هدف وغايات المحكمة منع الإفلات من العقاب ، وقيام المسؤولية الجنائية الفردية بحق مرتكبي الجرائم الدولية التي تدخل في سياق نظام روما فقط لا غير.

- أكد الحكم على أن فلسطين دولة طرف في المحكمة الجنائية الدولية وفق نص المادة 12 (2) (أ).

- دولة فلسطين حازت على العضوية وفق إجراءات قانونية سليمة ، ومارست المكاسب والامتيازات المترتبة على هذه المكانة، ومنها أصبحت الدولة الـ30 التي وقعت على  تفعيل جريمة العدوان، وبذلك دخلت الجريمة في اختصاص المحكمة، وهي تعتبر أخطر الجرائم الدولية، وكذلك أصبحت عضواً لعدة دورات في المكتب التنفيذي لجمعية الدول الأطراف.

هذه الممارسات الفلسطينية كان لها دور مهم وفاعل في تأكيد دولانية فلسطين أمام الدائرة، ودحضت الروايات المضادة التي تنفي هذا الحق.

- تحديد حدود فلسطين بشكل واضح ومحدد في الأراضي الفلسطينية المحتلة في الرابع من يونيو/ حزيران 1967 أي ما يشمل الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة.

- المحكمة غير مختصة في حل الخلافات الحدودية بين الدول، وليس من دورها أن تفعل ذلك، والحدود المتنازع عليها لا تمنع دولة من أن تصبح طرفاً في نظام روما.

- اتفاق أوسلو غير ذات صلة أمام المحكمة ( حيث تبنت عدة دول منها التشيك والنمسا وألمانيا والمجر وأستراليا والبرازيل وأوغندا) ما جاء في اتفاق أوسلو بهدف حجب صفة الدولة عن فلسطين، وقدمت الدول المؤيدة لإسرائيل في سبيل ذلك عدة مذكرات بهذا الغرض، ولكن الدائرة أكدت على أن أوسلو ليس لها اعتبار في هذا السياق، ولا يوجد أدنى قيمة للمواد التي تتضمنها  ما دام تنتقص من الحقوق القطعية المكفولة بموجب اتفاقية جنيف الرابعة المنطبقة على الأراضي الفلسطينية المحتلة.

- حق تقرير المصير حق إنساني، وانضمام فلسطين لهذه المحكمة يتسق مع ذلك الحق.

ويبقى التساؤل الرئيس ماذا بعد هذه الخطوة :

بالـتأكيد ما بعد هذا الحكم القادم أصعب وأعقد، حيث سيكون على المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية البدء في التحقيقات، وتفتح مرحلة الدعاوي والشكاوي وتوجيه الاتهامات ضد من يقترف جرائم دولية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، مع وجود أدلة دامغة على جرائم حالية ومستمرة كالاستيطان والتهجير وهدم البيوت والعقاب الجماعي الذي ترتكبه قوات الاحتلال الإسرائيلي .

وهنا يبرز تساؤل مهم هل هناك خشية من ملاحقة لأفراد المقاومة الفلسطينية أمام المحكمة؟!

هذه ليست مجرد خشية بل أصبحت واقع، خاصةً أن المحكمة هدفها معاقبة جميع مرتكبي الجرائم التي تندرج ضمن سياقها، وقد توصلت المدعية العامة فاتوا بنسودا في ختام فحصها الأولي إلى زعم حول قيام بعض أفراد الجماعات الفلسطينية المسلحة بارتكاب جرائم مدرجة ضمن النظام، كذلك تطرق حكم الدائرة في صفحاته الـ60 لهذا الأمر، وبالتالي من دون الحديث بلغة عاطفية جياشة، علينا بذل جهود كبيرة في منع تطور هذا الزعم ووصوله إلى حقيقة دامغة، والمطلوب التأكيد على رشد وعقلنة المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي في الأراضي المحتلة عام 1967 ، والتمسك بكونها تندرج ضمن حق الشعوب المحتلة في تقرير مصيرها الذي تضمنته العديد من المواثيق والاتفاقيات والقرارات الدولية، إضافة إلى حق الدفاع الشرعي، كذلك ترسيخ ما يفيد كون الممارسات الفلسطينية لم تصل لدرجة الخطورة والجسامة المتعلقة بالجرائم الإسرائيلية في فلسطين ، وتعزيز مبدأ التكامل في ضوء القيام بتحقيقات وطنية جدية منعاً للمحاسبة والمساءلة أمام المحكمة.

ختاماً ما حدث تطور هام ولحظة فارقة تتطلب جهود كبيرة ومضنية فلسطينية وعربية ودولية داعمة للحق الفلسطيني، عبر تجهيز ملفات بالانتهاكات قوية ورصينة ومثبتة بشكل دقيق ومقنع، وعلينا محاربة الاحتلال الإسرائيلي بالسلاح الذي يخشاه، وما يخشاه هو سلاح العلم والمنطق والبرهان القاطع والدليل الدامغ على حقيقة جرائمه المستمرة وممارساته العنصرية التمييزية في فلسطين.