حراك استقلال القضاء... لا حوار على مخالفة الدستور

27/01/2021

 

كتب: المحامي عمار جاموس

بالأمس 26 يناير، اعتصم المئات من المحاميين والحقوقيين وممثلين عن مؤسسات المجتمع المدني والنقابات المهنية والأحزاب السياسية ونشطاء ومدافعين عن حقوق الإنسان ومواطنين أحرار أمام قصر العدل في رام الله بناءً على دعوة من مجلس نقابة المحامين رفضاً للقرار بقانون المعدل لقانون السلطة القضائية والقرارات بقانون الأخرى المعنية بالشأن القضائي، والتي هدمت استقلال القضاء ومبدأ الفصل بين السلطات وتنكرت للكثير الكثير من مبادئ الدستور وللقيم التي يعليها وللحقوق والحريات التي يصونها.

بالأمس، وجدت ما قرأته ذات يوم في كتب الفقه بمسمى "الحماية الشعبية لاستقلال القضاء"، متجسدة على أرض الواقع فعلاً، تلك الحماية التي يعتبرها الأستاذ فاروق الكيلاني -رئيس محكمة التمييز الأردنية الأسبق، إحدى أهم مؤيدات استقلال القضاء، فهذه الحماية في جوهرها تعبير عن سيادة الشعب "الشعب مصدر السلطات" -أساس الحكم في المجتمعات الديمقراطية الحرة، فالسيادة للشعب تعني أنه يمارسها أنَّا شاء وكيفما شاء، فهي حيَّة في ضميره ووجدانه، وهي لا تموت ولا تسقط بالتقادم، فله أن يستعيدها في أي وقت يشاء إذا كان قد حُرِم أو تقاعس عن ممارستها لأي سبب من الأسباب.

تجمع الأمس، أثبت بتنوع المشاركين فيه وتنوع توجهاتهم الفكرية أن القضية ليست صراع سياسي -تنظيمي بعيداً عن مبادئ الدستور والقيم التي يعليها. صحيح أن الدعوة إلى الاعتصام وإلى غيره من الفعاليات جاءت من مجلس نقابة المحامين ذو الأغلبية الفتحاوية -وصلوا إليه بانتخابات حرة في نيسان ٢٠١٨، إلا أنه بماذا يمكن تفسير تواجد ممثلين عن مؤسسات المجتمع المدني وأكاديميين ومدافعين عن حقوق الإنسان وأحزاب سياسية ونشطاء مستقلين؟! هل جميعهم داخل هذا الصراع التنظيمي لحركة فتح؟! ثم ماذا عن المصالح المهنية البحتة للمحامين؟! فالمحامين من أكثر المتضررين من قضاء غير مستقل مبني على الولاءات لغير مبدأ سيادة القانون والضمير، فهل من الممكن أن تكون شؤون المهنة وأرزاق المحامين جزءاً من صراع تنظيمي داخلي وعرضة للمساومة من قبل مجلس النقابة؟! لا أعتقد ذلك، لأن الهيئة العامة للمحامين لا تتسامح مع ذلك مطلقاً بانتخابات دورية أو بغيرها. هذا كله بغض الطرف عن إعلان نقابة المحامين الواضح بأن هذا الحراك يمثل إعمالاً لواجبها في الدفاع عن قضاء مستقل يحترم الحقوق ويصون الحريات. طبعاً هذا الأمارات وغيرها لا تنفي أن ثمة جهات وأشخاص سوف يستفيدون من هذا الحراك -كما أي حراك أو حركة اجتماعية أخرى، لخدمة مصالحهم الخاصة، لكن هناك فرق دائماً بين أن نصف هذا الحراك بأنه حراك سياسي وجزء من صراع تنظيمي، وبين قولنا أن آخرين سوف يستفيدون منه لخدمة مصالحهم الخاصة، ولا أرى في الأخير سبباً للنيل من هذا الحراك أو إحباطه.

اعتصام الأمس يشير إلى أن نقابة المحامين والمجتمع المدني لن يتراجعوا حتى إلغاء القرار بقانون المعدل لقانون السلطة القضائية والقرارات بقانون الأخرى، ولا يجب أن يتراجعوا قبل ذلك، ولكن أود الإشارة هنا إلى مسألة مهمة ترددت كثيراً في الأيام القليلة الماضية، وهي مسألة الحوار حول هذه القرارات.... حوار ماذا؟! حوار على شاكلة الحوار بين الحكومة ومؤسسات المجتمع المدني ونقابة الصحفيين حول القرار بقانون بشأن الجرائم الالكترونية؟! وهو الحوار الذي ألغى القرار بقانون رقم ١٦ لسنة ٢٠١٧ واستعاضه عنه بالقرار بقانون رقم ١٠ لسنة ٢٠١٨!! فالأخير لم يختلف جوهرياً عن سابقه سوى قليلاً وفي المبنى لا في المعنى، فالنصوص التي اعتبرت تهديداً لحرية التعبير في القرار بقانون رقم ١٦، قد أعيد تدويرها بموجب المادة ٤٥ من القرار بقانون رقم ١٠، لتصبح أقل سوءاً لكنها بالمجمل بقيت سيئة، وتستطيع التأكد من ذلك بالاطلاع على لوائح الاتهام التي تقدمت بها النيابة العامة ضد النشطاء الذي اعتقلوا بسبب ممارسة حقهم المشروع في التعبير عن الرأي من خلال الوسائل الالكترونية، غالبية تلك اللوائح استندت إلى المادة ٤٥ من القانون الجديد. هذا إلى جانب الإبقاء على النص الذي يسمح بحجب المواقع الالكترونية ونصوص تهديد الخصوصية وحرمة الحياة الخاصة كما كانت في القرار بقانون السابق دون تغيير يذكر.

يمكن وصف ما حصل آنذاك بكلمة واحدة وهي "الوهم"...وهم تعديل القانون، وفي الحقيقة لم يتغير شيء جوهري، ولكن الحكومة استفادت من هذا الحوار ونتائجه في نقطتين: الأولى أبقت على النصوص التي تريدها هي في القانون، والأخرى نجحت في امتصاص الغضب الشعبي الرافض للقانون وخففت من وطأة الضغط الدولي المحرج الذي جاء من المقرر الخاص المعني بحرية التعبير في الأمم المتحدة ومن منظمة "هيومن رايتس ووتش" ومنظمة العفو الدولية.

القرار بقانون المعدل لقانون السلطة القضائية والقرارات بقانون الأخرى لا تقل خطورة عن قانون الجرائم الالكترونية بل هي أخطر منه بكثير، فهي تهدم استقلال سلطة القضاء -ملاذ الأفراد الأخير لحماية حقوقهم وصون حرياتهم. وواضح بشكل جلي أنها من أولها إلى آخرها قوانين سيئة، وقد أبانت عن ذلك صراحة عديد الأوراق والدراسات التي قامت بها مؤسسات المجتمع المدني وحقوقيون، لا بل إن طالب حقوق في سنته الرابعة -مع الاحترام- يدرك خطورة تلك القرارات بسهولة، يكفي مثلاً أن القرار بقانون المعدل لقانون السلطة القضائية يسمح بعزل أي قاض أو إحالته إلى التقاعد أو الاستيداع بمجرد الاطلاع على ملفه ومرفقاته هكذا وبكل بساطة (مادة ١١ من التعديل)!!، فما الفائدة من أي حوار عندئذٍ؟! إلا "تنفيس" لغضب الرأي العام، وإضاعة للوقت، ومن ثم إعادة انتاج ذات النصوص بصورة أقل قبحاً، لكنها سوف تبقى قبيحة!! ثم ما الفائدة مثلاً من الحوار حول القرار بقانون بشأن المحاكم الإدارية الذي أنتج قضاء إداري على درجتين إذا كان استقلال قاضي الدرجة الأولى وقاضي الدرجة الثانية قد تم النيل منه وتقويضه بموجب القرار بقانون المعدل لقانون السلطة القضائية؟! أو ما الفائدة أيضاً من حوار ينتج عنه تغيير في أشخاص المرحلة الحالية دون إلغاء القرارات بقانون الآن؟ أو حوار يؤجل بحث تلك القرارات لحين انعقاد المجلس التشريعي ولا يلغيها فوراً؟! وكأن المجلس التشريعي يملك العصا السحرية أو أنه حرٌ بتشريع ما يريد بعيداً عن الدستور والقيم الحرة!!

وعليه، فأرى أن الحوار قبل إلغاء القرار بقانون المعدل لقانون السلطة القضائية والقرارات بقانون الأخرى المعنية بالشأن القضائي، يمثل ضربة في مقتل لحراك استقلال القضاء ولفاعليات نقابة المحامين، فالأمور واضحة وضوح الشمس، والأوراق والدراسات موجودة، والحل هو الإلغاء الفوري، فلا حوار على مخالفة مبادئ سيادة القانون والفصل بين السلطات واستقلال القضاء، لا نريد أن تكون حالة الخروج عن القانون التي كانت تتم في السابق، "حالة قانونية" ومستقرة بموجب القرارات بقانون الجديدة؛ أي لا نريد "شرعنتها"، بل يجب الرجوع إلى صحيح القانون.