كيف تعثّر الاستثمار في الإعلام؟

14/01/2021

كتب: أكرم النتشة

طفت على السطح في الفترة الأخيرة عدة قضايا لفصل وانهاء خدمات العشرات من الصحفيين في الضفة الغربية من مؤسسات إعلامية مختلفة وانهيار اخر لمؤسسات إعلامية محلية ووقف بث محطات أخرى، الامر يتعلق بجانب أساسي وهو ظهور الاعلام الاجتماعي فما الذي حصل.

تجلى ظهور الاعلام الاجتماعي في تراجع الدور في الاعلام التقليدي مع سهولة تقنيات التواصل الاجتماعي المحمولة وتحول نمط الاتصال التقليدي من مرسل يتمثل بالمؤسسة الإعلامية ومتلقين الى نموذج اخر من الاتصال بان تكون المؤسسة الإعلامية جزء من عملية اتصالية يستطيع الكل الحديث بجانب الاعلام وربما بصوت اعلى أحيانا. ولم يعد الاعلام يحتكر الوساطة بين الجمهور ومصدر المعلومة من جهة او المعلن وجمهوره من جهة أخرى وصارت التكنولوجيا تحل محل الاعلام في هذا السياق.

هذا الامر بكل بساطة قاد الى تراجع الانفاق من الدول والمؤسسات والأحزاب على وسائل الاعلام التقليدية وتوجهها نحو الاعلام الاجتماعي. خسر الاعلام والعاملون الكثير هنا اذ ان تقنيات الانتاج  المعقدة باتت سهلة ولم تعد هناك حاجة لجيش من العاملين للخروج بتقرير صحفي وصار بإمكان صحفي واحد ان يحل مكان المصور وفني الصوت والمونتاج والبث ويكتب ويعلق على التقرير بصوته لتبدأ سلسلة الانهيار.

لم يكن هذا الانهيار الكبير والالغام في الطريق لم تنفجر بعد، رويدا رويدا بدأت التكنولوجيا تحل محل الوسيلة الإعلامية وفي البداية كما هي العادة اختصرت الإنتاج ووفرت الكثير من الموارد البشرية جاء الدور لتحصل التكنولوجيا على حصتها مقابل توفير العنصر البشري والوقت والجهد. ببساطة لقد استحوذت التكنولوجيا على الإعلان وصارت هي البديل عن وسائل الاعلام التقليدية بهذا المجال وحصلت التكنولوجيا على الحصة الأكبر من الإعلان وحصة وسائل الاعلام من 386 مليار دولار عام 2020 لم تكن كبيرة وحصلت التكنولوجيا على الجزء الاكبر.

ما يحصل في العالم ينعكس بشكل مباشر على ما يحدث في فلسطين مع بعض التفاصيل التي لا بد من ذكرها وسرد لبعض نقاط التحول في السنوات الأخيرة.
مع بداية الانقسام بدأ الاعلام الفلسطيني يدخل مرحلة جديدة وبدأت الجهات السياسية المتصارعة تسعى لطرح وجهات نظرها على الطاولة وامام الجمهور كما بدأت المؤسسات الاكاديمية انشاء منصات تدريبية لكنها دخلت في السوق الإعلامي الى جانب ومؤسسات المجتمع المحلي الى سعت الى تأسيس منصاتها الإعلامية الفضائية والاذاعية والرقمية لتكون لها حصة بعد رزمة التمويل التي بدأت تنهال على الضفة الغربية عقب الانقسام إضافة الى نمو في الاستهلاك بعد كساد الانتفاضة الثانية وبالتالي زاد الطلب على الاعلام وسعى القطاع الخاص بكافة مكوناته لاستثمار في الاعلام او على الاقل شراء مساحات واوقات ونشرات من المنصات الاعلامية.

انتعاش كبير حدث نتيجة ذلك في السوق الإعلامي الفلسطيني وتوجهت الجامعات ومراكز التدريب لإنشاء البرامج لسد الطلب في حاجة السوق على التخصص الصاعد كما ساعد بريق الإعلاميين على دفع المئات من التوجه لدراسة الاعلام.

كانت فلسطين القضية الأساسية في نشرات الاخبار العربية والعالمية ولم تكن فلسطين تغيب عن الصفحات الأولى او مقدمة النشرات إضافة الى فرد مساحات كبيرة للقضية ما استدعى تشغيل كم كبير من الإعلاميين الفلسطينيين بهذه المساحة. لكن هذا الموسم لم يدم طويلا فما اصطلح بتسميته الربيع العربي كان بداية الخريف على الاعلام الفلسطيني وبدأت الأمور تأخذ المنحى العكسي اذ بدأت اخبار مصر وتونس وسوريا واليمن تغطي بشكل كبير على القضية الفلسطينية وباتت عدسات الكاميرات تتوجه الى الدول التي تشهد ثورات وتغيير للأنظمة ونقصت حصة فلسطين في بعض الوسائل الإعلامية وتلاشت في أخرى لنشهد بدايات فصل زملاء من عملهم او تقليص موازنات مالية او تخفيض اجرة أيام العمل للصحفيين الفلسطينيين.

على كل حال استمرت المؤسسات الإعلامية بالعمل وبذات منصات التواصل الاجتماعي تفتح بابا جديدا للعمل الإعلامي اقل تكلفة بنتائج أفضل وسرعان ما توجهت اليه وسائل الاعلام الفلسطينية وبرز دور الشباب المتمكن أكثر من الجيل القديم بهذا المجال وتراجعت مؤسسات إعلامية عديدة بسبب عدم مجاراة الجيل القديم للتكنولوجيا الحديثة.

تركز الاعلام الخاص فلسطينيا بالإذاعات المحلية مع بعض المواقع والصحف الالكترونية والورقية، لكن على الاغلب لم تكن المؤسسات الاذاعية الصغيرة قائمة على بعد مهني واداري واضح وسعت الى التشغيل وتحقيق الأرباح البسيطة على حساب المهنية والهيكلية الإدارية، توجه هذا الاعلام ضمنا في معظمه الى إيجاد منصات على الاعلام الاجتماعي لكن الصدمة كانت ان هذه الوسائل ليست قادرة على استثمار المحتوى الذي تقدمه عبر هذه المنصات وبالتالي بدأت المعادلة الإعلامية تختلف ووجدت المنصات الخاصة نفسها عالقة فلا هي قادرة على استثمار المحتوى وغير قادرة على الانسحاب من الفضاء الرقمي.

تزامن الامر مع بداية استقرار الانقسام والابتعاد عن المناكفات الحزبية والتراشقات بين الفصائل الفلسطينية خاصة ان الجمهور لم يعد يطيق سماع هذه التراشقات الامر الذي أدى أيضا الى تراجع الانفاق على الاعلام التقليدي المكلف. إضافة الى الإشكالات الاقتصادية الضخمة في الوضع السياسي الفلسطيني وعدم تسلم أموال المقاصة وتكرار الامر خلال العامين الأخيرين وبالتالي هبوط اخر في سوق الاعلام.

رغم الدور الكبير الذي اداه الاعلام في مواجهة الكورونا عبر حملات التوعية ونفي الشائعات الا ان هذا لم يشفع له بالحصول على مصادر تمويل ولكن بالعكس الامر تعدى ليتضرر الاعلام الخاص بالضربة ما قبل القاضية نتيجة الانكماش الاقتصادي لتضطر وسائل اعلام عديدة اغلاق أبوابها وتسريح موظفيها او على الأقل تخفيض النفقات.

تزامن كل ما يجري مع خلل بنيوي في الجسم الصحفي وعدم اجراء انتخابات نقابة الصحفيين منذ فترة علاوة على انعكاس الحالة السياسية على الوضع النقابي الامر الذي أدى الى اضعاف قدرة النقابة على مواجهة الامر والعمل بنواة العمل النقابي وجوهره بالدفاع عن لقمة عيش أبناء المهنة. القطار لم يفت وبإمكان الجميع تجاوز المسألة على الأقل لضمان حقوق من تبقى في المؤسسات الخاصة وتحصيل حقوق من فصل من عمله. 

العاملون في وسائل الاعلام وقعوا تحت ظروف اضطرتهم للعمل دون أي حماية نقابية ودون عقود واضحة ورواتب متدنية نتيجة انفتاح السوق على كل الخريجين وعدم حصر العمل بخريجي الاعلام الذين تراكموا وسجلت تخصصات الاعلام اعلى نسبة بطالة بين خريجيها.

بالتأكيد فان الازمة ليست ازمة محلية بقدر ما هي ازمة عالمية وبالتالي فان الحل لن يبدأ من الداخل، بكل بساطة علينا النظر خارج هذا الإطار فالحلول النظرية التي تطرح هنا وهناك ومهاجمة وسائل التواصل الاجتماعي او مهاجمة المعلنين لأنهم يتوجهون اليها هو مجرد حديث افلاس لا أكثر.

علاقة الإعلان هي علاقة مصلحية توصلني الى الجمهور واعطيك مقابل ذلك مالا واي خلل في هذه العلاقة ستصبح علاقة غير سوية. وإذا رأى المعلن أي وسيلة اقل تكلفة وأكثر فعالية سيلجأ اليها حتى وان كانت من الداخل او الخارج ولن يعبأ المعلن إذا كانت وسيلة الإعلان مرخصة او لا او لمن تدفع ضرائبها هذه ليست مهمته ببساطة.

دعم الاعلام الخاص تحت أي حجة لن يكون ذا بال وبالتأكيد فان من الواجب على الحكومة ان تقدم تسهيلات مالية وإدارية لكن بالنهاية هي شركات ربحية خاصة واسست لتحقق الربح المالي، قد تتعاطف بعض الشركات والمسؤولين مع الاعلام المحلي لكن هذا لن ينفق على وسائل الاعلام ولن يغطي نفقاتها الجارية.

على الاعلام الفلسطيني ان يدرك ان الإعلان لم يعد الوسيلة الفضلى للحصول على التمويل ليسير على قدميه دون ان يؤثر ذلك على مصداقيته، بكل بساطة هناك من تضرر قبلنا وعالج الامر ويسير العالم الان في مرحلة انتقالية للوصول الى نماذج اعمال تحقق الدخل الكافي للصحافة. 

نحن الان امام مرحلة جديدة بالإعلام بالعالم وفي فلسطين أيضا سنكون امام مرحلة جديدة قد تغلق معظم المؤسسات الإعلامية أبوابها ويبقى الاعلام الحكومي والمدعوم من مؤسسات او أحزاب. سيتطلب الامر تغيير النمط الكلي للشكل والمضمون للمواد الصحفية المقدمة وربما إعادة صياغة العلاقات بين أطراف العملية الاتصالية بحثا عن مصادر جديدة للدخل.