محمود الفطافطة يكتب لوطن: ثلاثون عاماً إلا قليلاً

14/01/2021

زرعنا حكايانا في حقول المحبة لتُزهر لنا سنابلاً من الذكريات المخصبة بالانتماء والوفاء؛ تلك السنابل التي في اخضرارها اتسعت لها بيادر الخير وتجدد الأمل. وما بين تفجر القوة، وتمدد الأمل امتدت حكايات سُنبلة غُرست في حوض نظيف؛ تربته طاهرة، وماؤه نقي، بينما الرعاية فهي عريقة.

سُنبلة نمت ثم نمت رغم ما تعرضت له من عواصف الزمن؛ لتصمد أمام لقطاء الوطن، أكانوا محتلين له أو متحايلين عليه. هذه السنبلة التي أكل الدهر من عمرها سنينٌ طويلة دون أن يأكلها اليأس أو يتآكلها الزوال قاومت؛ لتحتل مكانتها السامقة بين سنابل فلسطين، وقمح شعبها الوهاج.

• ستون عاماً هو عمر سنبلتنا؛ نصفها أو يزيد قليلاً نشأت في حواري مسقط الرأس ورحاب التعليم، بينما نصفها الآخر فقد تعاركت مع أسنة العابثين بأرضٍ تلفظهم كل حين.

• ستون عاماً لم تتنعم سنبلتنا بطفولةٍ مريحة، بل أدركت منذ صباها عظمة المسؤولية وتحمل الدفاع عن وطنٍ سليب، وشعب مضطهد.

• ثلاثون عاماً إلا قليلاً عارك فيها بطلنا أقبية التحقيق وعذاباتها؛ ليظل فيها صامتاً بصرخة الحق، وصامداً بصلابة المبدأ.

• ثلاثون عاماً إلا قليلاً تنقل فيها بين سجن وسجن؛ لتتناقل الألسنة سيرته العطرة في كل السجون؛ تلك السجون التي رفض أن تكون له" مدفناً للأحياء"؛ ليحولها إلى مقبرة يُدفن فيها اليأس والخمول.

• ثلاثون عاماً إلا قليلاً عصفت به رياح الحزن وموجات البكاء لرحيل المحبين دون أن يطبع على جباههم قبلة الوداع. إنه الحزن المملح بقطرات الدمع المنسكب على وجنتيه لغيابه عن ميلاد ابن له أو حفيد يصرخان في جلمود الظلم إيذاناً بغياب الظالم وحضور السيد الحر.

• ثلاثون عاماً إلا قليلاً لم يقبل فيها أو يتقبل لعداد الزمن أن يمر ليقطع من عمره سنين وسنين دون أن يقدم نصيحة لفتى، أو بسمة لرفيق، أو تعليماً للغة، أو علماً لأجيالٍ تلو أجيال، أو إبداعاً يتدلى من عناقيده طيب القصص، وعذوبة الروايات.

• ثلاثون عاماً إلا قليلاً لم يكن فيها السجن قيداً له؛ بل أن السجن قد انقاد له. كيف للسجن أن يكون قيداً له وهو الذي جعل عقله مشغولاً بالتفكير، وخياله مُخصباً بالتأمل، وروحه سابحة في معارج السمو، وجسده مجبولاً بعافية الرياضات، ومسكوناً بتعافي الحركة.
• ثلاثون عاماً إلا قليلاً تصالح مع نفسه؛ ليصنع من سجنه رحابا أوسع من الأفق، وأبعد من المدى.

• ثلاثون عاماً إلا قيلاً لم تصاحبه عزلة، أو تسكنه شكوى، أو يخالطه ندم.

• ثلاثون عاماً إلا قليلاً حُرم رؤية الأهل وفقدان عديدهم، وصداقة الأبناء وتقبيلهم، ومسامرة الأوفياء والمشاركة في أفراحهم وأحزانهم… لقد كان، وما زال، إنساناً يحمل قلبا أبيضاً، وإن أحاطت به جدران مظلمة، أو أعداءٌ لا يُجيدون سوى لغة القهر، وسوط التعذيب.

• ثلاثون عاماً إلا قليلاً قُطعت بمنجل التغييب دون أن تغيب عنه ذكريات أمه التي رحلت وهي عطشى لتقبيله… إنها الأم التي كانت تخطف الهاتف المحمول من يدي ابنتها لتُقبل صورته … إنها الأم التي لم تشأ وضع سرير نومه الثقيل من على رأسها مخافة إيقاظه بينما كانت شوكة تدب في باطن قدمها… إنها الأم التي كانت طريحة فراشهلعقودٍ ثلاثة دون أن تطرح من لسانها سيرة ولدها التي عاش في ظلالها لأعوامٍ قليلة. إنها الأم التي كانت تتذكر ولدها بعيون دامعة، وتذكره بلسانٍ محروق، وتدعو له بالهداية والحرية بقلبٍ مشع باليقين والقبول.

• ثلاثون عاماً إلا قليلاً مرت كمر السحاب ... سحابٌ يسكنه غيث يروي سنبلة عمرها ستون عاماً… سنابلٌ تروي سنابلٌ؛ ليتجدد عمراً تتناسل منه سنابل من الأعمار؛ تُسقى بماء السعادة، وتتغذى على رحيق الأحرار.

  * هذا النص مُخصص لشقيق الكاتب (الأسير المحرر حسن الفطافطة) الذي أمضى في سجون الاحتلال قرابة ألـ (27) عاماً، على فترات متقطعة، آخرها 18 سنة، علماً أن حسن يبلغ من العمر ستين عاماً.