ياسين أبو خضير...أُسر من أجل الأرض وعاد إليها بعد 26 عاماً مزارعاً ملهماً لمجتمعه

06/12/2020

وطن للأنباء- تقرير: ربى عنبتاوي: دفاعاً عن الأرض ولأجلها، وهب الأسير المحرّر ياسين أبو خضير 26 عاماً من عمره في سجون الاحتلال. رغم السنوات الطوال خلف القضبان والجدران وإنعدام إي مشهدٍ أخضر من حوله، إلاً أن ذاكرته لم تنضب من مشاهد الحقل والمزرعة التي أشرف عليها والديه، فمشاهد سنابل القمح وزراعات الشتاء والصيف؛ كانت بمثابة الأمل بمستقبل مغايرٍ، فظل وفياً للموروث الأول، وحين تنفس هواء الحرية؛ كان المِعول أول ما حملته يداه، فبدأ يزرع ويسقي وينتظر الثمر، حتى باتت الأرض فردوسه الذي افتقده لسنين طوال.

يقول أبو خضير الذي نشأ وترعرع وسط عائلة ريفية في قرية شعفاط شمال القدس: "لم يكن أبي يهنأ له بال إن لم يفلح عشرين دونما من أرضنا  بالقمح، وكذلك الوالدة إن لم تزرع الخضار الصيفية والشتوية. كنا نزرع العصفر ونطعم بذوره للدواجن، واعتدنا أن نأكل من إنتاج بيتنا الفاكهة والخضار والحليب والأجبان واللحوم".

بقيت والدة أبو خضير تعمل بالحقل حتى قبل وفاتها بعامين، بعد اصرار إبنها الأسير – عبر رسالة من خلف القضبان-  بأن تتوقف عن الزراعة وتستريح بحكم السنّ الذي أخذ يثقل همتها، مع غياب اهتمام النسوة من الجيل الشاب ممن حولها بالزراعة.

من سجن الجلبوع الى حديقة المنزل
بالسجن؛ لطالما حلم ابو خضير بالعودة الى الأرض حيث كروم العنب وأشجار الزيتون، فأثناء فترة أسره في سجن جلبوع المحاط بسهل مرج ابن عامر، والذي كان يتمتع بمشاهدته كلّما نُقل السجناء بالحافلة، تمنى أبو خضير أمنية مستحيلة وهي أن يدعَ  الاحتلال السجناء يزرعون دونما واحداً ويربون فيه دجاجتين وعنزتين فقط، ما سيساعدهم في تأمين غذائهم فيوفر الأسير على إدارة السجن النفقات ويكون عنصراً منتجاً، لكن يعترف أبو خضير بأن أحلام يقظته في حينه؛ لا تتواءم مع حقيقة أن الفلسطيني ليس بشرا بالنسبة للاسرائيلي بل أقل بكثير، واصفاً التعامل القاسي بالسجون وكيف يُحرم الأسير من أي فسحة بالطبيعة، ويبقى محاطا بالاسمنت طوال الوقت، كما يهدف السجن الى زعزعة الحالة النفسية لدى الاسير بمنع شعوره بالاستقرار بنقل الأسير من سجن لآخر.

بعد التحرير بعام تزوج أبو خضير من سيدة مقدسية لاجئة من قرية قولونيا اسمها "ريما خليل" وأنجب منها طفلين، واختار أن يقيم في بيت والديه في ريف القرية، الأخيران اللذان منعه السجن من رؤيتهما فتوفيا بعيداً عنه. الحسرة التي يشعر بها كل مبعدٍ عن ذويه.
خلال اقامته، قام أبو خضير بتجهيز حديقة حول المنزل للزراعة، بنى فيها قن دجاج، واشترى عدة عنزات، ووسع الأرض وأزال الطمم والحجارة وبنى سلسلة حجرية.

يزرع أبو خضير في أرضه منذ سبع سنوات " الفلفل الملون، والحراق، والأخضر، البندورة واليقطين والفول في الموسم الشتوي، " "الفول جيد جداً بعد انتهاء المحصول حيث يستخدم كسماد للتربة لاحتوائه على العديد من العناصر الغذائية". يوزع ابو خضير ما ينتج من المحصول أولاً على بيته ثم الأهل والأقارب، وهو يعتبر الزراعة فلسفة وهواية جميلة قد لا تحقق له الاكتفاء الذاتي غذائياً، الا أنها تعلمه الكثير من القيم والدروس من أهمها معنى الصبر والتجدد.

فلسفة الحياة
"فلسفتي في الحياة هي الزراعة، أحاول أن اكون جزءاً من المنظر العام المحيط بي، لا أتحدث عن الزراعة كمزارع يعتاش من الزراعة ويتعب ويشقى ثم يتعرض لاستغلال التاجر، فالزراعة عملٌ شاق يعلمنا الصبر والتحمل، لأن المزروعات لا تنبت بيوم وليلة، بل تحتاج لأشهر وسنوات كالشجر مثلاً، ما يعني عدم الاستعجال في الحصول على النتائج رغم حقيقة أننا في مجتمع سريع يريد الحصول على كل شيء دون تعب".

وأشار إلى أن هناك فرق بين الزراعة البلدية وزراعة السوق، فالمذاق مختلف والرقابة على الكيماويات تكون أكثر أمناً في الزراعة المنزلية.

"الاسمدة الكيماوية تنتج الثمرة بسرعة وبكمية كبيرة، تتحول النبتة خلال هذه العملية لوحش ضخم من دون طعم او رائحة عدا انها مضرة بالصحة، على الرغم من ان استهلاك الانسان واحدٌ ولم يتغير على مدى السنين، لكن السرعة والطمع قلب كل المعادلة". يقول ابو خضير المناصر للزراعات العضوية.

"احاول ان أجعل محيطي اخضر، حتى لو اكتفيت بزراعة نباتات زينة، فمجرد رؤيتها خضراء تريح النفس، انا أكره الجدران والفراغات الجرداء، ورؤية الثمر على الشجر تشعرني بالبركة والسعادة". يقول وهو يسقي نباتاته بحبٍ وصبر.

الأرض بين الماضي والحاضر
حُكم أبو خضير عام 1987 بالسجن لمدة 28 عاماً، وأطلق سراحه عام 2014 قبل عامين من انتهاء حكمه خلال صفقة تبادل ثالثة بين السلطة الفلسطينية والاحتلال، كان عليه خلال كل تلك السنين أن يواجه الأسر من جهة؛ ويقاوم لحظات الضعف والاحباط من جهة أخرى، فالسجن، وفق أبو خضير، تحدٍ يومي لتقبّل الواقع، وهو نتاج فكرٍ وايدلوجيا حملها الأسير المحرر وما زال، تتلخص بأن هناك ما يجب أن يقدّم لأجل هذا الوطن.

أثناء الأسر، كان أبو خضير يتابع ما يجري في العالم الخارجي من خلال سؤال الأسرى الجدد، فأدرك أن النظره للزراعة والأرض تغيرت بشكل كبير، يقول: "في الماضي كانت الأرض جزءاً من حياة الناس، اليوم الأراضي وتحديداً في القدس؛ تقلصت بسبب مصادرة الاراضي والاستيطان من قبل الاحتلال، وقانون البلدية الذي يقتطع جزءاً من الأرض للمصلحة العامة، الأمر الذي يعد شكلاً من أشكال المصادرة عدا الشوارع المقامة للربط بين المستوطنات، كلُّ ذلك قلّل من المساحات الخضراء، وما بقي منها إلا المناطق الأمنية العازلة بين الأحياء العربية والمستعمرات. عدا عن تفتيت الأراضي بسبب تعدد الورثة على الأرض الواحدة، ما يعني عدد أناس أكثر وأراضٍ أقل".

يشير أبو خضير الحاصل على ماجستير في الدراسات الإسرائيلية؛ إلى أن الاحتلال شجع بشكل ممنهج على الابتعاد عن الزراعة، فهو معنيٌ بالأيدي العاملة الرخيصة، لذلك استقطب الفلاح وشجعه على ترك أرضه والعمل بالمستعمرات والمطاعم والمؤسسات كعامل بأجر يومي. ويرى أن ما يحدث اليوم هو طفرة بكل شيء في الاستهلاك وترك الأراضي، لأن الشغل المؤسساتي أو العمل كأجير؛ مربح أكثر من العمل بالزراعة.

يقول أبو خضير: "أصبحت الناس مقتنعة أن الأرض لا تحقق المردود المطلوب للأسرة. كما توجهت الناس نحو البناء بدل فلاحة الأرض مع ارتفاع أسعار الأراضي والعقارات، حيث وصل سعر الدونم في شعفاط مثلاً إلى 800 الف –مليون دولار، فازدهر الإسمنت على حساب الأرض والزراعة".

يتحدث ابن أحد أشهر عائلات شعفاط وهو يشير من نافذة بيته الى مستوطنة رمات شلومو غربي القرية والتي صادرات 40% من مساحتها ما حدد مستقبل شعفاط لـ 100 عام قادمة، لافتاً إلى محاصرة القرية من ثلاث جهات: الشرق والشمال والجنوب، والمنطقة الوحيدة التي تبقت هي الغربية القابلة للتمدد، لكن تم الاستيلاء عليها وبناء المستوطنة آنفة الذكر.

الحياة داخل القضبان
يقول ابو خضير وقد جلست بقربه ابنته الصغيرة سيرين: "معظم حياتي كانت بالسجن. لقد تعلمت الكثير خلال تلك الفترة واتسعت مدارك تفكيري، ونظرتي للمجتمع والمرأة والآخر اختلفت، كما أن قدرتي على ربط الأحداث ببعضها البعض، والنظرة بعمق أصبحت سمة بارزة في تفكيري، لقد حمَلتُ هويّات جديدة".

يتحدث وفي عينيه ذاكرة مرئية من سنوات الأسر الطوال: " كان السجن فرصة للتأمل والتفكير، صراع مع الذات والآخر، كانت مواجهة يومية ضد الظرف الإستثنائي، استفدتُ من تجربة من سبقوني وصنعت تجربة خاصة بي".
يرى أبو خضير أن اتفاقية أوسلو كانت انتكاسة على كل الصعد الفلسطينية والأسر ليس استثناءً، فقد أصبح النضال وتباعاً الأسرى؛ يتجهون نحو الفئوية والحزبية الضيقة. "لقد تغيرت المفاهيم داخل الأسر، والسجن بالنهاية هو مرآة للواقع".

الصمود في الأرض
وبنظرة تحليلية للواقع السياسي على المستوى الفلسطيني والعربي، يرى أبو خضير أننا نعيش أسوأ حالة، وشبهها بحالة الجزر المعاكسة للمد، حيث نصل للقاع والحضيض وقد نستمر سنة أو سنوات أو عقود ولكنها مرحلة وستنتهي من وجهة نظره.
"فكر بموتك في أرض نشأت بها... واترك لقبرك أرضاً طولها باع". يستشهد أبو خضير بهذا البيت للشاعر الفلسطيني الراحل ابراهيم طوقان، مؤكداً أهمية الصمود بالأرض، والاحتفاظ بكل متر فيها، ودحض محاولات الاحتلال الإبعاد عنها بشتى السبل. وبالنسبة للضفة الغربية فيرى أن التوسع يجب ان يكون أفقيا وليس عمودياً لحماية الأراضي من الاستيطان، مشيراً الى أن فكرة الاستثمار العمودي هو تفكير رأسمالي مادي بدليل أن هناك الكثير من العمارات الفارغة بلا سكان، فيما يؤكد أن المدّ الأفقي يكون عبارة عن بيت مع حقل لكل فلسطيني وهو فرصة ثمينة للحفاظ على الأرض.

أحلام ياسين
" الانسان لا يعرف قيمة الشيء الا حين يفقده، وانا فقدت العلاقة الملموسة مع الارض خلال الأسر، ولكني لم افقد ارتباطي الوجداني بها او رغبتي بالعودة إليها بعد التحرير. الأرض استمرار لحياتي التي توقفت قبل 26 عاماً، فحبي للأرض يتجلى في استغلال كل شبر ومتر للزراعة، فالمسألة ليس لها علاقة بالمساحة، بل بطريقة التفكير ومدى ارتباط الانسان بأرضه". يقول ابو خضير وفي صوته ثقة وإصرار.

أصعب شيء أن يفقد الانسان وطنه، ونحن كفلسطينيين ولاجئين على النقيض من كل دول العالم، نحمل وطننا أينما ذهبنا بدل أن يحملنا ويحضننا، ومعظم اللاجئين غير قادرين على العودة لأرضهم، لذلك يحلم الأسير الذي يناهز الـ 55 عاماً أن يرى الوطن يوماً ما؛ قادراً على لم شتات كل الفلسطينيين من كل انحاء العالم.

 

خاص بآفاق البيئة والتنمية