د.محمود الفطافطة يكتب لوطن .. كيف نوظف أسئلة الفكر السياسي في مواجهة "كورونا"؟

22/11/2020

 تُعتبر الأفكار السياسية لأي مفكر بمثابة المرآة التي تعكس الظروف التي عاشها والمؤسسات السياسية التي عاصرها. فهذه الأفكار هي نتاج عقل الفيلسوف السياسي أو المفكر السياسي، وهي في الحقيقة نتاج لتفاعل عقله مع مجتمعه ومع الحياة السياسية التي يعيش فيها. وبما أن الكون يقوم على أسئلة تحتاج إجابات فإن الفكر السياسي ومنذ عهد الإغريق بدأ بطرح الأسئلة السياسية الكبرى، وما زال منشغلاً بها حتى الآن.

هذه الأسئلة التي تُشغل بال الجميع، حكام ومحكومين، علماء ومفكرين كانت، ولا تزال الدافع الرئيس للمفكرين السياسيين على مر العصور في أن يقتحموا ميدان هذا الفكر ليصلوا إلى إجابات لحزمةٍ كبيرة من الأسئلة التي تزاحم عقول وهموم وآمال البشرية جمعاء.
أبرز هذه الأسئلة: ما الذي نبحث عنه في الحياة؟ وما الذي نسعى لمعرفته عن الإنسان؟ وهل يمكن أن نصل إلى معرفة الحقيقة؟ وكيف نصل إليها؟ وما هو النهج الصحيح لتحقيق سعادة البشرية؟ ثم ما هي معايير ومقاييس السعادة والعدالة والحرية والفضيلة؟ وكيف ينبغي أن تكون عليه العلاقة الصحيحة والمتوازنة بين الإنسان ومجتمعه ومع من حوله؟  ومن الذي ينبغي أن يتولى السلطة والحكم؟ وكيف يمكن للدولة أن تساهم في تعزيز حرية الإنسان ومتى ينبغي أن تتدخل من أجل أن تقنن وتضبط وتحد من هذه الحرية؟  وما هي المسؤوليات والواجبات والمبادئ العامة في الحياة؟ ومن المسؤول عن تحديدها؟ وكيف نصل إلى الغايات النبيلة؟، وهل هي غايات ثابتة أم متغيرة؟ وما الذي ينبغي أن نقوم به من أجل تحقيق هذه الغايات؟ .
هذه الأسئلة وغيرها تشكل مادة الفكر السياسي. فالفكر السياسي يبدأ بهذه الأسئلة وينتهي عندها. فهي شغله الشاغل وهي التي تحدد مادته ومقولاته وأهدافه وقضاياه وتعرف به كحقل من حقول علم السياسة، متميز عن الحقول الأخرى.
هذه الأسئلة هي أسئلة أزلية لكن أجوبتها نسبية، حيث طرحت قبل آلاف السنين وما زالت مطروحة إلى الآن وستطرح خلال المستقبل القريب والبعيد ربما بنفس الصيغة وبنفس القدر من الإلحاح هذه الأسئلة وغيرها طُرحت في الكتب السياسية الكلاسيكية. وفي هذا العصر " عصر كورونا" فإن الضرورة ملحة في أن يقوم المفكرين، بشتى توجهاتهم وتخصصاتهم وبلدانهم، في التصدي المعرفي والفكري لهذه الجائحة التي أفرزت الكثير من القضايا ذات الأبعاد المختلفة، والتي هي بحاجة إلى تفسير وتحليل ونقد واستشراف علمي ومنهجي، وهذا لن يقوم به إلا من يشتغل في الحقل الفكري السياسي بصورة جادة وعلمية.
المفكر السياسي هو الذي ينتج الفكر السياسي وهو وحده الذي يملك المعرفة والخبرة والمؤهلات والتقنيات البحثية الضرورية التي تؤهله لتفكيك الواقع وإعادة تركيبه وبلورة صورة متكاملة له في سياقه التاريخي والإنساني الأشمل. ما يقوم به المفكر السياسي هو أنه يولد الأفكار والنظريات الإيمانية والمثالية والأخلاقية والتأملية وربما أيضاً التطبيقية حول الإنسان والطبيعة والحياة والسياسة وحول مفاهيم كبرى كالحرية والعدالة والمساواة. هذه المفاهيم التي طالها الكثير من التأثيرات والتحولات في زمن كورونا بحاجة من المفكرين الالتفات إليها ومناقشتها بشكلٍ نقدي موضوعي، بعيداً عن شرنقة التحيزات السياسية، أو التوجهات الأيديولوجية، أو التأثيرات الاقتصادية.
فالمفكر السياسي هو في الأساس شخص منشغل بهموم وطنه وقضايا أمته ويسيطر عليه هاجس بوجود خلل عميق وخطأ لا يُحتمل الصبر عليه. فالمفكر بطبعه باحث قلق على محيطه السياسي والاجتماعي ولا يعرف الهدوء ولا الراحة ما دامت الأزمة قائمة والعلة باقية. هذا القلق الإيجابي والصحي يدفعه دفعاً نحو التأمل في طبيعة المشكلة والبحث في العلة وتشخيص أعراضها وتفكيك مسبباتها واقتراح ما يجب عمله من أجل تجاوز المأزق السياسي والاجتماعي والحضاري والإنساني الذي يقلقه ويؤرق مجتمعه.
دور المفكر السياسي مهم في جميع الأوقات بيد أن دوره الأهم يظل في وقت الأزمات المستعصية. فهو معني أساساً بتسوية المشكلة وحل الأزمة وإصلاح العطب وترميم الخلل وإعادة الأمور إلى طبيعتها والانتقال من الوضع الشاذ وغير الطبيعي إلى الوضع الطبيعي والسليم. وما تتعرض له البشرية من اجتياح شامل لهذا الوباء الفتاك يتطلب من المفكرين، سواءً من خلال كل مفكر لوحده، أو من خلال تجميع وتضافر لعدد كبير من المفكرين، الإسراع في دراسة الأسباب والتجليات والتأثيرات لهذا الوباء، ومواجهته، تأصيلاً، وأبعاداً.
والسؤال الذي يطرحه المفكر السياسي هو: ما هي المشكلة؟ وأين يكمن الخلل؟ ولماذا حدث هذا التدهور المريع في الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والصحية والثقافية وسواها؟ وما علاقة كل ذلك بالعدالة والحرية وممارسة السياسة وبالطبيعة الإنسانية وبكيفية تنظيم المجتمعات البشرية؟
إن ما يطرحه المفكر السياسي في الخطوة النهائية هو رؤيته الخاصة لما ينبغي أن يكون عليه شكل الواقع الجديد وما الذي ينبغي عمله للوصول إلى هذا الواقع في المستقبل. بلورة الرؤية واقتراح خريطة الطريق هي الخطوة الجوهرية والجامعة للخطوات الأخرى بل هي الخطوة التي يتركها المفكر السياسي للتاريخ وربما يدخل من خلالها تاريخ الفكر السياسي.  ومن هنا، يجب على المفكرين في العالم أن يتنادوا فيما بينهم للنقاش والتشاور حول " جائحة كورونا" التي سببت للعالم، منذ أكثر من عام، رعباً وخطراً وعزلة، ربما، لم تشهدها الحياة البشرية على مر تاريخها الطويل. إن الفكر المنطقي والاستراتيجي من شأنه المساهمة في إيجاد حلول واقعية وناجعة لهذا الوباء الفتاك والقاتل… لن يرحم التاريخ كل مفكر وعالم لديه القدرة في المساهمة الفكرية والمعرفية لمواجهة هذا الوباء لكنه حافظ على صمته، أو تحفظ على تقديم معلومة أو نصيحة. لا خير في عالمٍ يعتكف في برج التنظير دون أن يقتحم ميدان المشاركة والتطبيق.