غسان المصاب بمتلازمة داون .. بين وجع الاختلاف وصلابة الإرادة

25/10/2019

كتبت: دينا أبو دية

بلهفةِ العائِلة المُنتظرةِ لمولودٍ قادِم ، وطمأنة الأطباء المستمرةِ عليه ،وحتى الوصول إلى نُقطةِ الالتقاءِ المحسوسِ بين الأُم وجنينها ، لَم يُغادِر شعورُ أُمِّ جورج الرشماوي بأنَّ مكروهاً ما قَد أصابَ طفلها دون العلم بماهيته ،وعلى الرغم من أنَّ المولِّدين والعائلةَ قَد شَهدوا لَهُ بالصِّحة والمَظهرِ الجميلَ كأمثالهِ من الأطفال، إلا أنها لم تَكُفَّ عن سماعِ مناداتهِ لها في كُلِّ أنينٍ يُصدرُه ؛راغباً الشكوى من أمرٍ ما.

بعدَ أربعة أشهرٍ فقط من الولادة والدلال ،والحياةِ الطفولية الطبيعية ،وفي الوقتِ الذي بدأت فيه بتَلقينَهُ كلمة " ماما" ، وإطعامه بعض الفاكهةِ المهروسة ،ذهبت أُمُّ جورج كعادتها تُداعِبَهُ في سَريرهِ وقت المساء، لِتَجِدَهُ يعاني من حرارةٍ شديدة جعلتها تُسرِعُ به إلى عيادة الطبيب "جميل قمصية" في بيت لحم ،والذي ما كان قد أنهى فحصه إلا وشعرت بكلماته قبل أن يتفوه بها "إنَّ غسّان مُصابٌ بمتلازمةِ داون واضحة" !

" يعني بس هيك يا دكتور ؟ طيب ،الحمد لله ع أي حال " جملتها الوحيدة بعد سماعِ الطبيب.

لم تَقل شيئاً آخر ، ولم تَشعر بأي اغتمام ؛ َبل تدارَكت الأمر وأيقنت حالاً بأنَّهُ اختلافٌ في عدد الكروموسومات لا أكثر ؛ فقد كانَت أماً متعلمة ،و رَغبت في أن يصبح يافعاً ويعيشَ كما أقرانه ؛ بنحتِ مستقبلٍ له في مخيلتها سائلةً رَبها ومقسِمةً أن يكونَ واقعاً.

طفولةٌ ساكنة وفِطنةٌ مُلفتة

عاشَ غسّان في بيتٍ رَحِب في وسطِ مَدينةِ بيت ساحور الفلسطينية ، في كنَفِ عائلةٍ مُحبِّة، وبيئةٍ حظيت بكمٍّ وافرٍ من الثقافة ؛فلا تَذكُر أُمَّه موقفاً واحداً تعرض فيهِ للاستهجان والنبذِ ممن حَولَهُ ، بل على عكسِ ذلك ،غسان لم يحظَ إلا باللطفِ والدراية، " كانوا الناس بالشارع يوقفونا ويصيروا يلاعبوا فيه ،وكان دلوع العيلة كُلها " ، فَكان صَديقُ الجارِ الصغير ،وصاحبُ الأطفال، وابن العائلة المُغنَّجِ ،ولم يكُن أبداً طفلاً ذا حالةٍ خاصة ،هذا إلى جانِب والدتِه المُحفزَّةِ لَه ،والتي كانت دائماً اللسان الناطق لمشاعره.

امتلَكَ غسّان كاريزما قويّة على رُغمِ اختلافهِ عن بقيةِ الأطفال، ووجهاً ملائكيّاً يَنمُّ عن فطنةٍ عالية ؛ فتستذكِرُ أُمَّه موقفاً حَدَثَ لَهُ في طفولَتهِ حينما رافَق والدَهُ إلى المعلبِ البلدي في المدينة لِحضورِ مباراةٍ والذي قام بافتتاحها رئيس النادي " جمال بنورة" بكلمة موجزة على سمع الحاضرين وسمعِ الطفل غسان ،وبعينين تلمعان بالفخر والعاطِفة تُجسّدُ الأم الموقف في كلامها :"خِلصت المباراة وأخخده أبوه وروحوا ،ولما إجا كانوا ولاد الجيران بدهم يلعبوا فطبول ،فقام غَسّان وحكى كُل كلمة قالها بنورة ومنسيش ولا إشي ، افتتحها زي ما عمل جمال بالزبط " ؛ فكانَ عَوض الله لَهُ أن منحهُ الفطنة والذاكرة لما يحيطه وجعله ذو ذهن صافٍ يخلو من الهَمِّ والتشتت علاوةً على القبول المجتمعي وحُبِّ النّاس.

عاطفةٌ مُتدفقة من الصغر ومواقف صعبة

بمجرّدِ النظرِ في عيني الطِّفلِ غسّان ،يَهِبُ لَكَ شُعورَ الحُبِّ والاطمئان ،بل ويَكشِف عن روحٍ تتعلُّقُ بأحبائها سريعاً ،ويصعب الفراق عُليها . البدايةُ كانت عند أخيهِ الذي يُرافِقُهُ نَفس الغرفة ويُقاسِمَهُ كُلَّ ما فيها ، عندما أتى موعدُ حفل زفافه وفي الوقت الذي تركه فيها وحيداً مستوحشاً لغيابهِ ؛رَفضَ غسان النَّوم وحدَهُ وانهمرت الدُّموعُ في مقلتيه بشكلٍ كَبير ؛رافضاً فِكرة الزواج والابتعادِ عَنه " أنا بدي جورج يرجع ،بديش يتجوز، بديش أضل لحالي فالغرفة". يُنادي أخاهُ بالصَّوت المبهمِ والقلبِ المنفطر.

ولكن الأَصعب عليه ، هو فِراقُ عمود البيتِ ،ورفيقِ غسّان الدائم في كُلِّ رحلاتِهِ ،"والدَهُ" ، في الوقت الذي كان فيهِ غسّان صغيراً على الحُزن مرةً ثانية ،والصَّبر على وجع الموت.

يَكرَهُ غسّان صوت الإسعاف كَثيراً،ولا يطيقُ سماعَ صافرتها حين تدوي لأنها تُذكّرُهُ برحيلِ والِدهِ ومَشهد الجنازةِ الذي لم يفارق نَظرَه كُلما شاهد صورةً لأبيه معلقةً في البيت ، "لما تُمرق الإسعاف بصير يصرخ ،ويسكر في دينيه بدوش يسمع صوتها ،واحنا بنصير نروّق فيه " فأُمُّهُ تحاولُ تهدأتَهُ كُلما زار الحنينُ لأبيهِ قلبَهُ، وكَم أخطأ كُلُّ من قالَ بأنَّ أصحابَ هَذهِ الحالة لا يَشعرونَ ولا يستوحشون عند الغياب.

شابٌ حالِم ،وأُمٌ مُؤمنة

أكملَ غسّان عامَهُ الثامن عشر، وَلَم تنسَ الأُمُّ وعدها لَهُ في أن يُصبِحَ شاباً مسؤولاً عن نَفسِه وصاحِبَ مهنةٍ كبقيةِ إخوته وأمثالهِ من الشَّبابِ ، فبعَدَ أن عاش طفولةً شِبهَ طبيعيةٍ واهتمامٍ دائم،كان من الضَّروري أن يُصبح صاحِبَ هدفٍ وإنتاجٍ ،لا عالة كما ينظر المجتمع لأصحابِ الاحتياجاتِ الخاصة.

بدايةُ الحُلم والعطاء كانَت في عامِ ٢٠٠٤،عندَما انضمَّ غسّان "لمركز الواحة لذوي الإعاقة في بيت ساحور " ،والذي يبعدُ عن بيته بضعُ أمتارٍ ،وعلى الرُغمِ من توفرِّ العديدِ من الحِرَفِ المتعلَّمةِ فيهِ ،إلا أنَّ رغبةَ غسّان شاءت تعلُّمَ نحتِ الخَشَبِ وتمثيله حتى يكادُ كلُّ من يتأملهُ أثناءَ تدريبه القَسمَ بأنَّهُ خُلقَ لأجلها.

يَمسِكُ غسّان قطعَتهُ ؛فيصورها في ذِهنهِ الصافي قبل تجسيدها ، ويوشك على الانفصال عن عالمه الخارجي ليدخل إلى العالم الذي يُحب ، حيثُ الانغماس في رائحة الخَشب والدِّقة المتناهية في حركة أصابعهِ الملامسةِ لأدواتِ النحت .

يَجلسُ بين أقرانِه بجانبِ صديقِ روحهِ نزار ،الذي لم يشارُكه حالَتهُ الصحيّة فقط بل شاركهُ المقعد الفارغَ جانَبهُ في عمليةِ صنعِ التُّحفِ التمثيلية ؛فكانَ شبيههُ في كُلِّ شيء.

الخطوةُ الفاصلةُ في حياةِ غسّان كانَت في عرض انتاجاتِهِ في احتفالاتِ ومهرجاناتِ المَدينة ،وبيعِ تعبه وكدِّه للعيونِ المُعجبةِ بعمله بعباراتٍ مُّحفزةٍ منهم وسعرٍ مُستحَق،" أنا بحوِّش في المصاري اللي باخدهن عشان أفتح إلي مَنجرة واشتغل فيها " يقولها دائماً بصوته المُتقطِّع وتمتماتِهِ غير الواضحة لأمه وجيرانه وصديقهِ، فهو يُعبرُ عن حُلمِه بكُلِّ أمل ،وبقلبٍ مليء بالإيمانِ والصِّدق.

"عِندما تصفُ حماسَ هذا الشّاب لغريبٍ لا يَعرفهُ ، لا يَخطرُ على ذهنهِ بأنَّهُ شابٌ يعاني من حالةٍ خاصة ومتلازمة داون ؛لأن الشبابَ الأصحّاء في زمننا أسرفوا عُمرهم دون هدفٍ أو ثقةٍ بأنفسم "هكذا تَصفُ عابرةٌ سَمعت قصّة غسّان بزيارتها لَه في المركز ،وكأنها تلومُ كُلَّ من قلل من قدراتِ أمثالِ غسان.

بدايةُ تحقق الحُلم

لَم تكن أعمالُ غسان الخشبية أعمالاً عابِرة، ولا تماثيلَ مألوفة ،بل كانت تستوقفُ كُلَّ من يَراها ويشهدُ جمالها ، مُعبِّرةً أحياناً عما داخَلهُ ،وأحياناً أخرى تكونُ غرضاً لمناسبةٍ دينيةٍ او اجتماعية .وقد أصبح مع الأيام يتلقى مزيداً من الزبائنَ لأعمالِه إلى أن جاء جارُه النَّجار طالباً مِنهُ الانضمامَ للعمل مَعه.

واليوم ،على طاولةِ المنجرةِ العتيقة ،منجرةُ العمِّ أبي عاطف، والواقعة على شارع سطيح في نفس المدينة وبين زحام العاملين وأصوات الماكنات ،في المكانِ الذي تَفوحُ مِنهُ رائحة الخشب والتحف التمثيلية ، يجلس غسان صاحِبُ الاثنانِ والثلاثون ربيعاً بادياً عليه أثرُ حُبِّ الحرّفة والانشغال بدقة صنُعه ؛فيشُعرُ من يراهُ بأنَّهُ يداعبُ القطعة بين أصابِعهِ لا يصنَعُها!

أما حين يأتي موعدُ الانصرافِ من العَمل ، يتأكدُ غسّان مرة أُخرى من حرفية أعماله ، وينظرُ إليها نظرةً أخيرة قبل المغادرة ، وكأنَّهُ يطمئنُ على قطعةٍ من روحهِ ، ليقوم بعدها بإزالةِ" بواقي النِجارة "على ملابسهِ الواسِعة والكاسيةِ جسدهِ الممتلئِ وظهره الممشوق.

يَحصلُ غسان في نهايةِ كُلِّ شهرٍ على راتِبهِ ، ويستشعرُ في كُلِّ مرةٍ يلمُسها بكمٍ هائلٍ من الرضا والسَّعادة ؛ فيذهبُ ليشتري بها بعضَ الحلويات والبعضُ الآخرُ يُخبأهُ لإحقاق الحُلم المنشود.

لذا الأمر لم ينتهي هُنا ؛ فالحُلمُ مازال قيدَ الفكرِ والتحقيق،وسقفُ الطموحِ يعللو باستمرار ، وافتتاحُ منجرة باسم غسّان ليست ببعيدةٍ عَليه ، فمثلُهُ لا ينقصُه الحماس ُ والدعم والإيمانُ به من يستطيعُ أن يُجسد كُلَّ ما يرغبُهُ واقعاً أمامه.

العَديدُ من أشباهِ غسان وُلدوا في كَنفِ عائلات ظنوا أنهم موجدين للهمِّ والمسؤولية فقط، بل وأكثر من ذلك ، فقد سمّاهُم البعضُ بالابتلاء العظيم ونظر لهم نظرة الشَّفقةِ والانتقاص دون الإدراك بأنَّ هذهِ الفئةُ من النَّاس أكثرنا صِدقاً وشاعريةً وأَمل ،وأنَّهم لو وجدوا ما وجدهُ غسان من ثقافةٍ وحب ودعم سيكونون فخراً وسنداً لعائلاتهم لا عالةً و مرَض.