نادية حرحش تكتب لوطن.. أزمة مقابر القدس: من أين تبدأ مسؤولية الأوقاف وأين تنتهي؟

14/07/2019

أثار مقالي الثاني بشأن موضوع المقابر بالقدس، ردة فعل تحولت إلى إثارة لم أكن اتوقعها.

أعرف ان هناك مشكلة، ومن أجل هذا تطرقت الى الامر اكثر من مرة على امل ان يقوم اصحاب الشأن في الحكومة والاوقاف بالتدخل.

أعرف جيدا، ان المقالات من هذا النوع ستسبب الإزعاج والاستياء لأصحاب الشأن. وكالعادة قد تطالني بعض ردود الأفعال المسيئة، ولكن، وبالمحصلة، فإن الهدف من المقال ليس التأكد من فرحتي أو عكسها، ولكن "دق الخزان" على مسألة تهم الشأن العام وتستحق التوقف عندها والتحرك من أجل إيجاد حلول ووضع أصحاب الشأن أمام المسؤولية.

لم تكن الطريقة المثلى من قبل اصحاب الشأن من جهة الاوقاف، التوجه الى عائلتي "لتصويبي"! بالنهاية فقد قاربتُ الوصول للخمسين من عمري، ولم يعد في العمر ما ينفع لتصويب امرأة ليست بالقاصر. إلا أنني وجدت في الأمر فرصة بعد الحديث مع الأخ مصطفى أبو زهرة مسؤول لجنة المقابر بالقدس، من اجل فهم الموضوع من وجهة نظره. بعد إصراره على فكرة، وكررها بأنه من واجبي التحري، وهو طبعا صادق، وكان من الأجدر بي أن أرى كم الأمور الإيجابية التي تقوم بها الاوقاف في المقابر.

عند زيارتي السابقة للمقبرة، لم أرَ ما يجعلني أنظر للأمور بأي ايجابية، فالقذورات تستقبلك على طول الطريق والأشواك في كل مكان، والكثير من شواهد القبور مكسرة. ولكن، وبينما كنت استمع للأخ مصطفى تيقنت أنه هناك بالفعل حاجة لأرى الأمور من عيونه لأفهم بالفعل ما يحاول ان يوصله لي. واتفقنا على موعد قريب، وكان.

انتظرني الاخ مصطفى أبو زهرة بعد صلاة الظهر، وقام بجولة مهمة للغاية من مدخل مقبرة باب الرحمة. أراني ما لا تلاحظه عيني بالضرورة من اعمال كثيرة جدا وترميمات على مستوى فتح الطرقات بين القبور وفي المعابر العامة، وهذا بلا شك مهم جدا، خاصة لمن يعرف المقبرة قبل عقدين، فكان من الصعب الوصول الى أبعد من بضع أمتار قبل سنوات. المظلات على مدخل المقبرة كما في وسطها مع مقاعد للاستراحة ايضا مهمة وتدل على وجود جهد متواصل.

كان هناك الكثير من المعلومات المستفيضة التي اخبرنا بها الأخ  مصطفى (أبو الأمين) عن المقبرة وتاريخها، فنحن نتكلم هنا عن أول وأقدم مقبرة في فلسطين، تستطيع أن تفهم تاريخ فلسطين من خلال هذه القبور منذ الفتوحات الاسلامية حتى نكسة ال ١٩٦٧. رأينا قبورا للصحابة مع بداية الفتوحات الاسلامية.. قبور دفن فيها الباشوات وأخرى ضمت حامل رتب مهمة.. قبور يعود زمنها إلى العقد الثالث الهجري حتى نهاية الحكم العثماني.. رأيت إشارات وعلامات.. رخام وحجر بمختلف خاماته على مر العصور التي مرت على المقبرة.. شخصيات تاريخية ورمزية.. صحابة وأولياء.. شهداء وابطال.. أسماء لأناس مروا بتاريخ هذه المدينة وطبعوا في ذاكرتنا الجمعية والخاصة لنحمل من خلالهم ارثا نتحدى به ونواجه احتلال يريد ان يأخذ من التاريخ القريب ويشوه اصلنا بادعاءات جديدة لأجناس بعيدة عن المكان، في وقت حتى الحجارة في هذه المقبرة تشهد معنا ضد محاولات الاحتلال للنيل من هويتنا وذاكرتنا.

في المقابل، تكلم ابو الأمين باستفاضة عن خطر لا يتوقف، ويترصد بالمقبرة كما يترصد بالمدينة، فالمقبرة تحت تهديد دائم من قبل سلطة الآثار والبيئة التابعة للاحتلال، إضافة لانتهاكات الشرطة وقوات أمن الاحتلال التي من الممكن أن تظهر مع أي حركة. الأوقاف من جهتها تحارب -ومنذ سنوات- محاولات دائرة البيئة في سلطات الاحتلال التي حدت من مساحة المقبرة ومنعتها من التمدد الطبيعي حتى نهاية الارض. ناهيك عن مشروع "التليفريك" الذي كانت إحدى قواعدها على تلة في المقبرة، ولقد اجتهدت الأوقاف من أجل إيقاف سلطات الاحتلال.

أراد الأخ أبو الأمين من خلال جولته هذه، أن يثبت لي بأن القبور القديمة محافظ عليها. وأن ما تم تداوله من سرقات لبعض القبور عاري عن الصحة. أما بالنسبة لموضوع استخدام الممرات ما بين القبور، فهو يرى بأن هذا العمل عادي، في وقت تعاني به المدينة من أزمة قبور. فتعداد الناس في القدس يتزايد، وهناك مقابر لعائلات كبيرة شاسعة ومن الممكن استخدام الفراغات لتلبية احتياجات الناس.

الحقيقة انه لا يمكن عدم فهم وجود مشكلة. هناك بالفعل مشكلة حقيقية. فقبل ثلاثين سنة كان عدد السكان لا يتجاوز المئة الف، وكان هناك ثلاث مقابر واسعة، واليوم وصل التعداد السكاني لاكثر من 300.000 الف شخص ولهم ثلاث مقابر.. فما الحل؟
هل من الطبيعي أخذ المساحات الفارغة بين القبور واستخدامها للأموات الجدد؟

لم استطع أن أتقبل الموضوع من هذا المنطلق، فالامر بالنسبة لي كمن يأتي الى بيتي ويقرر ان يأخذ البلكونة أو الممر لأنني لا استخدمه.

نعم، إن القبور ليست ملكا للأشخاص، ولكن للأوقاف. ونعم من الطبيعي أن يكون هناك وفاق من قبل أصحاب القبور مع الأوقاف للتعاون في هذا الأمر. فربما لو استشارت الأوقاف أصحاب القبور لتفهموا. ولكن في ذات الوقت، أتفهم موقف عائلة لا تقبل أن يتم خلق قبر بين قبورها بالعموم.

من جهة، لا أستطيع سوى أن أثمن المجهود العظيم الذي يقوم به رئيس لجنة القبور؛ فالأخ مصطفى أبو زهرة رجل تعدى السبعين من عمره، وفي كل مرة أتذكر فيها جهده ومشيه بين القبور محاولا بكل إخلاص إيضاح ما يقومون به من جهد، أشعر بالحزن والتعاطف. لأنه في المحصلة، هذه ليست مسؤولية يجب أن تقع على عاتق رجل بعينه. هناك حاجة لتدخل مؤسساتي بأعلى المستويات للدعم،  ولا يمكن تجاهل كم الحاجة للاستثمار في ترميم وتصليح وتأهيل المقابر.ومن المجحف عدم فهم كم الضغط الذي تمارسه سلطات الاحتلال من أجل الاستيلاء تدريجيا ومنهجيا على المقبرة. كما انه من غير الممكن عدم فهم الضغوطات التي يواجهها الناس لأجل إيجاد قبور لموتاهم.

ولكن هل معنى هذا السكوت عما تسميه الأوقاف "بعض التجاوزات"؟!

المشكلة في ما يمكن تسميته تجاوزات أكبر من خلل وتعدي على قبر عليه اختلاف في وجهات النظر. لأن هذه التجاوزات تتسبب في خلق أزمة اجتماعية، جعلت أصحاب القبور القدامى أمام حالة حنق من الجيران الجدد من أهالي الأموات الذين حصلوا على هذه الأماكن عبر الشراء، أي اصبح المكان من حقهم الشرعي، وحالة حنق من قبل اصحاب القبور الجدد الذين يرون في وجودهم في تلك الاماكن حقا مكتسبا عن طريق الشراء. وبالحالتين يتوجه الحنق صوب جهة الاوقاف المسؤولة عن العمل. كل هذا امام عدو يترصد لكل خطوة من اجل ايجاد فرصة للاستيلاء على المكان.

أنكر الاخ أبو الأمين والعاملون معه بالمقابر جملة وتفصيلا ما سمعوه وما تناولته بمقالي عن موضوع السرقة والتعدي وتغيير معالم المقبرة. وعندما ذكرت لهم الأسماء التي أعرفها ووصلتني بتفاصيل محددة، وأكدوا أن ما حصلت عليه من معلومات كان غير صحيح.

في ردي أمامهم، قلت إنه من الواضح أن الناس يخافون! وسألني أحد الاخوة العاملين مازحا -والذي بدت طيبته واضحة طيلة مرافقتي في الساعات الثلاثة الماضية-: إن كان قد استقبلني بالذخيرة والموليتوف؟! توقفت كثيرا أمام ما هو اسوأ من الذخيرة على حسب اعتقادي بما جرى معي بعد العشر دقائق الاولى من دخول المقبرة بصحبة الأخ أبو الأمين، عندما ظهر رجل يلبس زيا برتقاليا ببنطال قصير وقبعة، بينما كان الأخ ابو الأمين يشرح لنا عن تفاصيل متعلقة ببعض القبور، ليقترب الرجل مني منادياً: "حرحش؟"! ظننت في البدء أنه قد يكون مدمن مخدرات عابر، واستغربت من سؤاله عني بالاسم، أثار الرجل في الثلاث دقائق القادمة موجة من الرعب جعلتني أفهم تماما ما يجري مع الناس عندما تختار عدم المواجهة. بدا الرجل غاضبا وصار يتكلم بتهديد ويسأل أسئلة فارغة موجهاً لي تهماً لم أفهمها، بمسبات، بينما حاول أبو الأمين والأصدقاء المرافقين لي إبعاده عني. كان الرجل هائجا وكأني قتلت له قتيلا. ولم يتوقف عن السب والشتم، وكان هناك حاجة لثلاثة رجال ليبعدوه، وهدد بأنه سيقوم باستدعاء شباب البلدة كلهم في لحظات، والأهم أنه كان يصورني بينما كنت أصور ما يحدث -مهددا بنشر ما يصوره لي وفضحي أمام الجميع!

دقائق من البلبلة والرعب بكل معنى الكلمة، لم تبق شتيمة لم يقلها، وطبعا ما أسهل الشتائم عندما يكون الهدف فيها امرأة.

لم افهم لمَ! ولكن عرفت أنه أحد العاملين بالمقبرة، هذا الرجل لم يتوان عن الاعتداء علي بينما كنت بصحبة المسؤول عنه، ما الذي كان من الممكن أن يفعله هذا الرجل لو كنت لوحدي!

هل من الصعب فهم لم يختار الناس ان يسكتوا؟!

حاولت نقل ما رأيته وما حدثني عنه كثيرون من المتضررين بموضوع القبور.. بينما كنت أحاول التشديد على فكرة أهم من التراب والجثة التي تتوارى تحته، بأن هناك ذاكرة شخصية وعامة تتعلق بالقبور.. هناك موضوع هوية وطنية قد تكون المقابر إحدى محاورها الأساسية في المستقبل. فنحن نرى ونعيش كيف يعمل الاحتلال على مدار عقود على التنبيش عن ما هو تحت الارض وفوقها، ولم يترك حجرا إلا وحاول اقتناص فرصة نسبه لتاريخه. فالقبور هذه بماضيها ومستقبلها تشكل هويتنا الوطنية في شكل هذه المدينة.. وعلينا ان نكون أكثر وعيا.. بينما وصل العدو في نبشه إلى الـ"دي أن أي" الخاص بنا ، فالقبور ليست مجرد مكان نأوي فيه ميتا.

وعلى الرغم من وضعي المسؤولية المباشرة على الأوقاف، إلا أن الأوقاف لا يمكن أن تجد الحلول لوحدها، هناك واجب شعبي علينا، يبدأ بالمحافظة على نظافة المكان والمساعدة وتأهيله. فلو قام كل مقتدر وصاحب قبر بتخصيص مبلغ من المال للتنظيف والرعاية والزيارة. لو قامت المؤسسات المجتمعية بعمل نشاطات تطوعية للشبان والأطفال لتنظيف المكان.. بهذا نستطيع أن نساهم ونساعد الأوقاف بمهمتها الصعبة. كما أن هناك ما هو أشد أهمية، وهو وجوب إيجاد حل حقيقي لمشكلة القبور. فلو افترضنا أنه أمكن استخدام كل المناطق الفارغة بين القبور، فهل تحل المشكلة؟ الجواب قطعا لا. هناك حاجة لتوفير مقبرة جديدة لأن اعداد الناس تتزايد. فمن المؤسف أن نصل الى مرحلة نتقاتل فيها من أجل إيجاد مكان لآخرتنا!
وهنا يأتي سؤال موجه من الأوقاف إلى السلطة الفلسطينية: ما المطلوب من الأوقاف فعله في ظل تزاحم المقابر وعدم سعتها للمزيد من الموتى؟

لقراءة المقال السابق حول ذات الموضوع.. اضغط هنا