المرأة الفلسطينية وزيرة الصمود، تنقش اسم الوطن في قلوب أبنائها وتزيّن بالحناء تفوقها

15/06/2019

كتبت: لينا ابو هلال

في الوقت الذي كانت المرأة العربية تتهندم لاحتفالات "يوم الاستقلال" في أوطانها، كانت المرأة الفلسطينية تغزل الصمود في قلوب أبنائها، وتبني من الصبر صخرة تتكئ عليها كلما اشتدت المعاناة. لن استهل حديثي بالتطرق لموضوع تكليف وزارة تحت مسمى "وزارة المرأة" في وطنٍ محتل كانت ولا زالت المرأة منارة صموده وثباته، ولكنني سأستهل الحديث برواية جدتي. جدتي تلك المرأة الفلسطينية، بثوبها الأسود المطرز باللون الخمريّ، وابتسامتها الأنثوية التي حاربت بها دموع اليتم، والمرض، وقضبان الأسر الذي طوّى عمر فلذة كبدها. سأحدثكم عن هذه المرأة التي لم تتفاخر يوماً بصمودها، ولم تتهاون يوماً في صبرها. جدتي التي فقدت عينها أكثر من مرة، وفي كل مرة كانت تردد: " احنا اخترنا نظل بالبلاد عشان ما يظيع اللي ظل منها، وبدنا نصبر". وأنا تلك الحفيدة، التي كلما كبرت عاماً، رددت بنفسها: أنا لست قوية كجدتي، ولست وطنية كجدتي، فقد اغرقني تهاون من ولّوا أنفسهم رعاة للوطن باليأس، على عكس جدتي، التي لم تنال المؤامرات التي عاصرتها من تضحياتها. جدتي التي نشأت يتيمة الأب، ولم تكن تجيد القراءة ولا الكتابة، ولم تعاصر ثورة التكنولوجيا للتفاخر بتضحياتها عبر منصات التواصل الاجتماعي. سأكتفي بوصفها بأنها امرأة فلسطينية؛ قوية، لا ينطفئ ثباتها ولا تحد دموع الألم من قوة ضحكتها.

جدتي التي لم يهينها اليتم، ولم يهز قوتها المرض، عاندت "السرطان" في شبابها، فنجت منه رغم تشاؤوم الأطباء. لم يكن خبر " الحكم بالأسر" لأبنها الطبيب المجتهد وصاحب الابتسامة الهادئة أثني عشر عاماً مدعاة لليأس، بل عطّرت سجون الاحتلال بزياراتها، وكانت الأم لكل مناضل غيّب المرض أو الموت زيارة والدته. لقد قضت جدتي، وكحال كل أم فلسطينية، أثني عشر عاماً من التضرع لله بالفرج لهذا الطبيب الشاب الذي كان يحلم بالنجاح والتميّز في وطن غير محتل، ولم تحول المعاناة من صبر جدتي أو ثباتها بل كان حب الوطن يتجذر في قلبها مع كل صباح تشرق به الشمس على هذه الأرض. لقد أحبت جدتي وكنساء فلسطين الوطن بصمت، ولم تتهاون يوماً في حب الوطن، ولم تكن تضحياتها ذريعة لأحدٍ من أبنائها للحصول على أي منصب أو نفوذ في هذا الوطن المحتل.

جدتي، التي فقدت نور أحد عينيها وهي في سن الشباب، لم تهتز ثقتها بنفسها وبجمالها العربي الأصيل، فالمعاناة زادتها قوة ورغبة بالحياة، بل رغبة في تحقيق أمنية تدفنها في قلبها، وهي أن ترى علم فلسطين يرفرف على أسوار القدس، وان تندحر صورة هذا الجندي الذي يطالبها ببطاقتها الشخصية عند كل موعد للصلاة في المسجد الأقصى. جدتي صاحبة الجمال العربيّ الأصيل، وعيونها الحور، لم تحمل البندقية يوماً، ولم تلقي الحجارة على العدو، ولكن خطواتها الواثقة كانت تهز سجون "عسقلان" و"الخليل" آنذاك. لم تكن جدتي تتغنى بالثوابت الوطنية، والقدس عاصمة للدولة الفلسطينية، بل كانت تعتبر القدس عينها الأخرى التي فقدتها، وترى العالم من خلالها. توفيت جدتي في سن السابعة والثمانين بقوتها وعزتها وحبها الجارف للحياة في فلسطين، وقبل أن يعتلي علم فلسطين أسوار وبيوت القدس. 


جدتي، كنساء فلسطين؛ جمالها من صنع الخالق وحكمتها من رحم المعاناة. ومن لا يدرك حتى اليوم من هنّ نساء فلسطين، أقول: نساء فلسطين كشجرة زيتون، تعمقت جذورها بتراب الأرض فأثمرت مقاومة وصمود.  لقد تاولت المؤمرات، والحروب على هذه الأرض ولم تتهاون الفلسطينية بشرفها من أجل لقمة العيش، بل صمدت وأشعلت الحطب ناراً أضاء للرجل طريقه ومستقبله، وحملت الشقاء على كتفيها وفي رحمها جنيناً ولم تتعب، ولم تتغنى يوماً بشرفها، فقد كان الحياء خمارها والطهر ثوبها.


اليوم، ونحن نستمع لخاطبات أحدهن، نقف صامتين يأساً، يا لردائة حالك أيها الفلسطيني! اليوم عليك أن تحمل نعش جدتك من جديد، وتجول به قرى ومدن الوطن باكياً ومردداً: لقد توفيت اليوم من أنجبت رجال الوطن بصمت، ومن سهرت الليالي تبكي سراً على ولدها الشهيد أوالأسير أوالجريح أو كل هؤولاء معاً. لقد توفيت من هدم الاحتلال منزلاً شيده شبابها حجراً حجراً. يا لرداءة حِجَتُك أيها الفلسطيني صاحب الحق المسلوب منذ سبعة عقود!


لم أروي لكم رواية جدتي اليوم تفاخراً، بل لأعيد الحياة لأرث جداتنا؛ أمهات الشهداء والأسرى والجرحى، أمهات الفقراء واللاجئين والصابرين والمناضلين وكل المسميات التي منحها الشعراء أياها. قدمت لكم جزء بسيط من رواية جدتي كـ مرآة لرواية كل امرأة فلسطينية، ولنعلمها للأجيال القادمة، وليعلم أبنائنا بأن على هذه الأرض عاشت نساء هزمْنَ المعاناة ونسجْنَ منها قوة، وصنعْنَ من الصبر حلماً، فلم ينتصر الحرب ولا الفقر على كرامتِهُنّ، ولم تنال الأمية من حكمتهنّ في الحياة، فقد كانت القيم البوصلة للتربية الصالحة.


إن ما يحتاجه الوطن اليوم وفي ظل هذه الظروف المؤلمة التي يعاني منها كل فلسطيني، هو تعزيز القيم، والاجتهاد في اختيار الكفاءات كأساس لإدارة مؤسسات الوطن لنتمكن من الصمود في وجه محاولات المحتل، ولنتخطى تهاون حكومات الاشقاء العرب والغرب. وفيما يتعلق بتكليف وزارة لشؤون المرأة، فنحن نساء فلسطين نرى في ذلك تعزيز للعنصرية في مجتمع لطالما كان التعايش والتسامح والحريات منهجه. وإن تكليف هذه الوزارة هو كحال الاعتبارات العنصرية الأخرى التي تعتمدها المؤسسات الفلسطينية: كالموقع الجغرافي، والدين، والانتماء السياسي، والتاريخ النضالي، وغيرها من اعتبارات في إدارة المؤسسات الفلسطينية والتي من شأنها أن تهدم أوطان، فبناء المؤسسات لا يقوم الا بالكفاءات والقيم، والتراجع عن المعايير التي تم انتهاجها على مدار الخمسة وعشرين عاماً الماضية، والتي انتجت الفساد وتراجع الانتماء للوطن والانحراف عن البوصلة وهي القضية. علينا أن نأخذ ما يردده المسؤول الفلسطيني من خلال وسائل الاعلام ومنصات التواصل الاجتماعي على محمل الجد، فهذا المسؤول يمثل وطن وشعب وقضية وعليه تحمل المسؤولية، وليعلم بأننا نواجه عدو يمتهن أدوات العلاقات العامة وحربنا مع هذا العدو قضية وجود علينا التصدي له بكل الوسائل المتاحة، ومقاومة الغرور الذي يتحكم بشخصية كل مسؤول غاب عن ذهنه أنه وزيراً لخدمة الشعب والأهم خدمة القضية، لا لخدمة مكانته ووضعه الاجتماعي. إن ما يبدر عن المسؤول الفلسطيني اليوم من تصريحات وفي كافة المناسبات، يعكس حالنا وحال مؤسساتنا ونسيجنا الاجتماعي الذي أخذ يتفكك ويسكنه القلق نتيجة تراجع القيم والفساد الذي يسيطر على ثقافة مؤسساتنا، والأزمة المالية ونقص الموارد المالية. لكن ليس بالأموال وحدها تبنى الأوطان، بل بالقيم قبل كل شيء، لذا علينا إعادة النظر في نهج إدارة المؤسسات الفلسطينية العامة والخاصة، وتعزيز مكانة المرأة التي تعتبر أساس رقيّ الأمم، وإحياء إرث جداتنا في التربية والتنشئة. 


ومن هنا، ومن خلال كلماتي المتواضعة والبسيطة والتي نَسجْتُ حروفها بانتماء وحب الوطن، وفخراً بما قدمته نساء فلسطين لهذه الأرض، أجدد دعوتي ودعوة كل امرأة فلسطينية؛ لا تُنَصِبوا لنا وزيرة على شؤوننا، فالمرأة الفلسطينية لا تحتاج وزارة، بل تحتاج الى دور لها في مؤسسات الوطن، وتحتاج الثقة؛ بأن الغد سيحمل للفلسطيني مستقبلا أفضل، وأقل عقبات ومعاناة لأبنائها لتتجرأ على إنجاب لمزيد.


المرأة، في حكمتها يكمن سر الحياة، وبها ترتقي الأمم، والمرأة الفلسطينية جبل شامخ، تحمل الجنين في رحمها والقضية على رأسها، وحب الحياة والإنجاز في قلبها، وبقوتها يتعزز صمودكم، فلا تهدموا إرثنا ولا تغتالوا ما تبقى لنا من قوة.