الأزمة بين النظرية والواقع

06/01/2019

كتبت: منى مسعودي

طالما أننا أيها ألأحبة نعيش في عالمنا العربي الآزمات الواحدة تلو الآخرى، وطالما أن الاستراتيجية التي وصلت اليها ردود الفعل الرسمية وشبه الرسمية وغير الرسمية تجاه الازمات تنصب في السعي لادارة هذه الازمات بدلا من حلها جذريا، فقد  إرتأيت أن أبحث قليلا في المفاهيم النظرية التي تتعلق بالآزمات بشكل عام مع السعي لإسناد الازمات التي عصفت وتعصف بنا الى إطار نظري.

بادىء ذي بدء، لا بد لنا من الاقرار أن هناك أزمات تعصف بنا جميعا في عالمنا العربي بهذا البلد أو ذاك بشكل منفرد وأزمات عامة تعصف بنا كأمة عربية ، وكل هذه الازمات ليست أحداثا عابرة، فالحادث هو حالة أو فعل أو مسألة فجائية لم تكن متوقعة وحدثت بشكل سريع وإنقضى أثرها بإنتهاءها، كأن نقول أن سيارة مسرعة تحطمت ونجم عن تحطمها وقوع خسائر في الارواح والممتلكات. أن ما يعصف بنا هي أزمات تحل بنا الواحدة تلو الآخرى.

ومما لا شك فيه، أن الازمات تولد صراعا لأن ما يحدث على أرض الواقع يسبب خلالا محددا ومكثفا يهدد الانظمة السياسية والنسيج الاجتماعي ويعزز ربما الصراع الطبقي. 

الآزمة بشكل أساسي من وجهة نظري هي ما يوجهه صانع القرار إزاء قرار أتخذه سبب حراكا وتسلسلا متراكما لأحداث وتبعات أدت جميعها الى أختلاط الأسباب والنتائج ما أفقد صاحب القرار القدرة على السيطرة وخرجت الآمور من بين يديه وأصبح عاجزا عن التنبؤ أو إستقراء نتائجها المستقبلية.

وهنا تكمن المعضلة، حيث ان صانع القرار يجد نفسه في حيرة من أمره مع قناعته بأن الأمور تسير نحو المجهول، فيكون أمامه إما المضي والامعان في قراره أو التراجع عنه. فإن مضى فإنه يخشي أن تتهدد مصالحه الحالية والمستقبلية وأن يمس بنظامه الاداري ويخشى أنه عند طرح أي قانون أو نظام مستقبلا فإن مصيره هو مصير سابقه، ويجد نفسه أمام عنصر هام هو عنصر الزمن، الذي ينقله الى مرحلة ثانية من الأزمة وهي إدارتها مع حاجته الماسة لآتخاذ قرارات سريعة وحازمة إن تأخر بها فسوف تعود بنتائج وخيمة على كيانه الاداري. وللأزمة مرتكزات أساسية كما يقولون أولها عنصر المفاجأة عند وصول حالة الانفجار ، كم حدث في حرق محمد البو عزيزي لنفسه في الرابع من كانون ثاني عام 2011 ما أسفر عن إنتفاضة شعبية هرب على أثرها الرئيس التونسي زين العابدين بن علي ، فكان لحادثة الابو عزيزي الاهتمام والتأثير على الأفراد والجماعات وثاني مرتكزات الازمة تعقد وتشابك الأحداث والظروف وكثرة الفتاوى والتحليلات وفقا للمصالح المختلفة المؤيدة لتفاقم الآزمة أو الداعية لتخفيف وتيرتها قدما نحو وقفها. وثالث مرتكزات الآزمة هو ضرورة الحصول على المعلومات الدقيقة والتحقق منها كي تتضح الملامح ويصار الى بلورة الحلول لهذه الازمة، فكم كان من الغباء أن تؤكد " البطانة الصالحة" للرئيس الليبي أو الرئيس العراقي أن الأوضاع تحت السيطرة وهي ليست كذلك. إن عدم دقة المعلومات تقود الى الاتجاهات الخطيرة في أية أزمة قد تطيح بالكيان الاداري. والمرتكز الأخير في ذروة الآزمة هو الخوف و تؤدي الى إنهيار المنظومة الادارية وإشتداد التظاهرات بل وقد تفصح بعض الجهات عن أهدافها التي كانت غير معلنة، وهنا تدخل الآزمة في مرحلة أنعدام القدرة على التنبؤ بما قد تصل اليه الأمور، تماما كما ينهار سد للماء بصورة كاملة.

ومن خصائص ألازمة بروز حدث مفصلي يؤدي الى تأزيم الحالة التي يواجهها النظام الاداري ومن ذلك على سبيل المثال ما حدث في تونس عندما هتف أحدهم "بن علي هرب" ويقصد الرئيس التونسي زين العابدين بن علي الذي فر من البلاد. وبالتالي ننتقل هنا الى الخاصية الثانية من خصائص الازمة والمتمثلة بأنه على ضوء إنتشار خبر هروب بن علي كان لا بد من اللجوء الى فعل عاجل للحيلولة دون تدهور أوضاع البلاد، وبذك فقد تعرض النظام الاداري الى الخاصية الثالثة من خصائص الازمة حيث وجد نفسه تحت الضغط الاجتماعي وترجمته الضغط النفسي، وسرعان من إنتقل الى الخاصية الرابعة من خصائص الآزمة وهي عنصر المفاجأة غير المتوقعة على نحو لم يسمح لصانعي القرار السياسي بالتفكير حول القرار الآنسب الذي يتوجب إتخاذه ( الخاصية الخامسة)، فوجد النظام السياسي التونسي نفسه أمام الخطر المباشر الذي يمس مصالحه وإستمرارية وجوده، فإنتقل بذلك الى الخاصية السادسة من خصائص الازمة وهي التوتر الشديد والعجز عن القيام برد فعل موزون، ويدخل النظام السياسي في الخاصية السابعة التي تتعلق بالتشكيك بنفسه وتزايد حالة الخوف، فتنعدم الرؤيا والتوازن ( الخاصية الثامنة) وفي الجانب الأخر لا يصفق للنظام السياسي من تحرك ضده فتتزايد عمليات تدمير الممتلكات العامة والفوضي ( الخاصية التاسعة)،    

تماما كما الحبكة المسرحية، من حيث تسلسلها لتصل الى ذروتها فإن للآزمة مجموعة من المراحل التي تمر بها بأن يكون لها أولا مقدمات تعطينا معاومات بأن حدثا غير عادي سوف يحصل، وتبدأ ثانيا تجليات هذا الحدث في الظهور واحدة تلو الأخرى، وتتفاقم الى أن تصل الى الذروة ثم تبدأ بالانحسار الى أن تضمهل. ومن هنا فإن مراحلها تتجسد في الانذار ( وربما الانذار المبكر) ثم تترعرع الآزمة الى أن تنفجر ومع مرور الوقت تتراجع وتنحسر. وبالطبلع تنشأ الآزمة بوجود حاضنة لها أي ظروف تعطيها الدفء وتوفر لها من العوامل التي تساعدها على النمو والترعرع، وتساعدها على التأزم والتوتر لتصل الى اللحظة المرتقبة وهي الانفجار. وشأنها شأن أي دورة عادية فاللازمة ميلاد، ونمو ونضج وإنحسار وزوال. 

ولا بد لنا الأخذ بعين الاعتبار في الازمات كلا العنصرين الذاتي والموضوعي، بمعنى أن للازمة أسبابها الذاتية كأن نقول مثلا أزمة إرتفاع أسعار الدقيق وهناك أيضا العامل الموضوعي المتعلق بإرتفاع الأسعار بشكل عام وإنخفاض الدخل. وما يساعد في ترعرع الآزمة وجود مناخ وحاضنة ففي أزمة إرتفاع الدقيق مثلا يكون المناخ عادة إرتفاع الضرائب وإرتفاع الغرامات والفوائد ولامبالاة الحكومة وتعنتها وعدم إستعدادها لسماع رأي الناس بل والاستهتار بحركة الشعب كما يحدث الان في السودان حيث تغلي الأوضاع على صفيح نار ليست هادئة ساعد في تأجيجها القمع والتنكيل والقتل والاعتقال من قبل الحكومة. 

أما عن إدارة الآزمة، فلا بد لنا في البداية من الاشارة الى أن تاريخ البشرية عرف الازمات دونما إنقطاع، لكن بلورة فلسفة إدارة الازمة ربما لم يظهر الا في ستينات القرن المنصرم، وخلاصتها أنه طالما أن الازمة واقعة وتحصيل حاصل، فلماذا لا يتم بلورة أستراتيجية لادارة الآزمة وليس لحلها أو الحيلولة آصلا دون وقوعها أو تكرارها.

وقد يبدو للوهلة الأولى أن الهدف من إدارة الازمة هول دحرها علميا وإداريا بغية أولا السيطرة عليها وثانيا التخفيف من آثارها وثالثا عدم تكرارها، إلا أن حقيقة الآمر أن أدارة الأزمة على أرض الواقع تهدف الى الاستفادة قدر الامكان من حدوث الازمة بأقل تكاليف ممكنة تحت مسمى العمل في الظروف الصعبة والمناطق الأكثر خطورة أو الأكثر عسكرة (Highly militarized areas) بحيث يتم خلق حالة مراوحة "مكانك سر" تبقى الآزمة تحت السيطرة دون التأثير على الحياة اليومية الرتيبة، وبالتالي تتولد مجموعة من أركان إدارة الازمات ومنها على سبيل المثال لا الحصر أولا إستحداث أنظمة أدارية تشخص مظاهر الآزمة وتجلياتها وتقوم وفقا لذلك بتحليلها وتشخيصها والسعي لايجاد حلول مؤقتة لها وربما يتطلب الآمر التنسيق والتشبيك مع كافة الجهات الرسمية وغير الرسمية كل في مجال إختصاصه وثانيا مع مرور الزمن تنشأ مجموعة من النظم الادارية المتفرعة وفقا للتخصصات فنرى وحدة للمساعدة القانونية ووحدة للصحة ووحدة للمأوى ووحدة للتعليم وهلمجرا، وثالثا تتحول الخطط المرحلية الى خطط طويلة الأمد مع إستمرار الآزمة فتطغى النمطية والروتين على العمل حتى نجدها متأصلة في التقارير الدورية أو التقارير السنوية وبشكل خاص تقارير الأمم المتحدة وهيئاتها المختلفة، وتكثر رابعا ورش العمل والدورات التدريبية المتعلقة بالكادر الاداري للازمة وكذلك دورات تثقيفية لبعض المتضررين من الازمة وتوثيق ذلك كله وحوسبته خامسا للبناء عليه في أزمات مستقبلية مماثلة.

في مقالة له بعنوان " ما هي الأزمة وكيف ندير الأزمات ؟" عرّف الدكتور عبد الاله البـلداوي ( وهو باحث في الدراسات الإستراتيجية والأمنية) الأزمة على أنها "  ... مصطلح قديم ترجع أصوله التاريخية إلى الطب الإغريقي – نقطة تحول بمعنى أنها لحظة قرار حاسمة في حياة المريض – وهي تُطلق للدلالة على حدوث تغيير جوهري ومفاجئ في جسم الإنسان، ففي القرن السادس عشر شاع استخدام هذا المصطلح في المعاجم الطبية، وتم اقتباسه في القرن السابع عشر للدلالة على ارتفاع درجة التوتر في العلاقات بين الدولة والكنيسة، وبحلول القرن التاسع عشر تواتر استخدامها للدلالة على ظهور مشكلات خطيرة أو لحظات تحوّل فاصلة في تطور العلاقات السياسية والإقتصادية والإجتماعية... كما عرّف ألستار بوخان (Alastair Buchan) الأزمة في كتابه إدارة الأزمات: بأنها تحدٍّ ظاهر أو ردّ فعل بين طرفين أو عدة أطراف، حاول كل منهم تحويل مجرى الأحداث لصالحه... أما كورال بل (Coral Bill) فإنها تعرّفها في كتابها إتفاقيات الأزمة – A study in Diplomatic Management, the Conventions of Crisis : بأنها ارتفاع الصراعات إلى مستوى يهدد بتغيير طبيعة العلاقات الدولية بين الدول... ويشير روبرب نورث ( Robert North ) إلى أن الأزمة الدولية: هي عبارة عن تصعيد حاد للفعل ورد الفعل، أي هي عملية انشقاق تحدث تغييرات في مستوى الفعالية بين الدول، وتؤدي إلى إذكاء درجة التهديد والإكراه، ويشير نورث إلى أن الأزمات غالبًا ما تسبق الحروب، ولكن لا تؤدي كلها إلى الحروب إذ تسوّى سلميًا أو تجمّد أو تهدأ، على أنه يمكن دراستها على اعتبارها إشتراك دولتين أو أكثر في المواجهة نفسها.... وفقاً لذلك فإن الأزمة: هي موقف مفاجئ تتجه فيه العلاقات بين طرفين أو أكثر نحو المواجهة بشكل تصعيدي نتيجة لتعارض قائم بينها في المصالح والأهداف، أو نتيجة لإقدام أحد الأطراف على القيام بتحدي عمل يعدّه الطرف الآخر المدافع، يمثل تهديدًا لمصالحه وقيمه الحيوية، ما يستلزم تحركًا مضادًا وسريعًا للحفاظ على تلك المصالح، مستخدمًا في ذلك مختلف وسائل الضغط وبمستوياتها المختلفة، سواء أكانت سياسية أو اقتصادية أو حتى عسكرية... أما إدارة الأزمات فتعرف بأنها: .. فن إدارة السيطرة من خلال رفع كفاءة وقدرة نظام صنع القرارات سواء على المستوى الجماعي أو الفردي للتغلب على مقومات الآلية البيروقراطية الثقيلة التي قد تعجز عن مواجهة الأحداث والمتغيرات المتلاحقة والمفاجأة وإخراج المنظمة من حالة الترهل والاسترخاء التي هي عليها.,,, فيعرف الباحث البريطاني ويليامز إدارة الأزمات: بأنها سلسلة الإجراءات الهادفة إلى السيطرة على الأزمات، والحد من تفاقمها حتى لا ينفلت زمامها مؤدية بذلك إلى نشوب الحرب، وبذلك تكون الإدارة الرشيدة للأزمة هي تلك التي تضمن الحفاظ على المصالح الحيوية للدولة وحمايتها.... في حين يرى الخبير الإداري الدكتور ماجد شدود أن إدارة الأزمات: يجب أن تنطلق من إدارة الأزمة القائمة ذاتها وتتحرك في إطار الاستراتيجية العامة للدولة، وهذا يتطلب تحديد الأهداف الرئيسة والانتقائية للدولة خلال الأزمة والتحليل الاستراتيجي المستمر للأزمة وتطوراتها والعوامل المؤثرة فيها، ووضع البدائل والاحتمالات المختلفة وتحديد مسارها المستقبلي من خلال التنبؤ والاختيار الاستراتيجي للفرص السانحة وتحاشي أمر المخاطر التي تحملها الأزمة أو التقليل منها حيث يتطلب ذلك معلومات وافرة ومعطيات مناسبة وإدارة رشيدة".

ويبقول الدكتور البلداوي أن " أسباب نشوء الأزمات كثيرة منها الفقر والتخلف والجهل والعوز والفتنة والأمراض والتعليم المحدود وندرة الموارد وتدهور البيئة والكوارث الطبيعية والنمو السكاني والتطرف والجريمة المنظمة والبطالة كل هذه الأمور تشكل أرضاً خصبة لنشوء الأزمات، كما تمثل بذرة النزاعات وعدم الاستقرار في كثير من الأحيان كما ان سوء الفهم والإدراك أو سوء التقدير والتقييم أو الرغبة في الابتزاز واستعراض القوة وتعارض المصالح وأن لكل أزمة أداء وسلوك ومن خلالهما يمكن معرفة عناصر شدتها وقوتها والمصدر المنفذ لها وكيفية التعامل معها لمواجهة الأزمة كما أن لكل شيء سبباً فإن هناك عوامل تتسبب في وجود الأزمة، فهي لا تنشأ مجزأة، وليست وليدة اللحظة، ولكنها نتاج تفاعل أسباب وعوامل نشأت قبل ظهور الأزمة، وتتعدد الأسباب التي تؤدي إلى نشوب الأزمة، كما أن الأزمات تنشب من أجل الموارد كالمياه والغذاء والمراعي والصراع من أجل التوسع السكاني، وأزمات الانفجار السكاني، وأزمات النظام الرأسمالي والصراع الأيديولوجي والاجتماعي، والصراع على الأسواق ومصادر المواد الأولية، والصراع السياسي على السلطة بين الأحزاب المختلفة كذلك الصراع على الهيبة والنفوذ بالإضافة إلى الأسباب الاجتماعية والاقتصادية للصراع" .

ويعتبر الدكتور البلداوي أن الآزمة " ... تمر بسلسلة مراحل تبدأ بـ:- مرحلة الانذار المبكر - مرحلة النشوء والتبلور.- مرحلة النمو والصعود والانتشار.- مرحلة الانفجار .- مرحلة التثبيت أو رسوخ الازمة.- المرحلة الاخيرة وهي مرحلة ايجاد الحلول وان ادارة الازمات الناجحة يجب ان تبدأ بوقت مبكر جداً وان تضع هدف الوقاية خير من العلاج في اولويات مهامها، والافادة من الدروس والعبر المستنبطة من هذه الازمة وتداعياتها.