في حضرة الغائب...بقلم: ساطع نور الدين

14/08/2011

كثيرون من جيل ما قبل اختراع التلفزيون او على الأقل ما قبل الانتقال من الأسود والأبيض الى الالوان، ما زالوا يشعرون بمهابة الشاشة، بالخجل من مشهد فاضح، او بالحرج من خطأ فادح. وما زالوا يعتبرون ان ما تنقله الكاميرا بالصورة والصوت مزيف ومخادع، ومن نتاج سحرة او مشعوذين، او مهرة في برامج الكومبيرتر والخدع البصرية.. وما زالوا يجزمون بأن التلفزيون ليس ذاكرة ولا يمكن أن يكون، بل هو مجرد وسيلة ترفيه وتنويم وتجهيل.

لهذا السبب الجوهري بالذات قاوم كثيرون من هذا الجيل الضغوط والنداءات وأحجموا عن متابعة تلك المحاولة المثيرة للجدل لاستعادة سيرة أحد أفراد جيلهم الشاعر الراحل محمود درويش، وتحويلها فجأة إلى مسلسل درامي تلفزيوني، يسلّي الصائمين بعد إفطارهم ويعوّضهم جفاف يومهم الصيفي ويرطب ليلهم الطويل بقصص الحب والشعر والخيال، ورواية الوطن والمنفى والعودة التي تجسّدها تلك الشخصية التراجيدية النموذجية في التاريخ الفلسطيني.

كان لكل واحد من هذا الجيل شروطه المسبقة للحضور وأسئلته المحرجة عن النص والممثل والممثلة والمخرج والمنتج. كان يريد أن يتفادى لحظة الجلوس امام الشاشة للاعتراف بأن محمود درويش لم يعد هنا، على هذا الارض، صار في حضرة الغياب الذي كان عنوانه الوحيد، وهويته الخاصة التي لم يستردها حتى عندما غادر الجسد مكانه، وظلت الروح والقصيدة معلقتين على جدران الذاكرة، وعلى جوازات السفر.

كان لكل واحد من هذا الجيل مطالبه المستحيلة لمشاهدة بعض اللقطات وسماع بعض الحوارات ومتابعة بعض الوقائع الدرامية: الا يساله أحد رأيه، وألا يطلب احد منه إجراء اي مقارنة، او المشاركة في النقاش. فقط ان يجلس وحده ويواجه التحدي. ويحاول أن يتذكر ما لم ولن يسقط بعد من الذكريات، وما لا يمكن تمثيله وعرضه على شاشة مسطحة باردة. كان آخر المستحيلات المطلوبة ألا تتقطّع المشاهد بأي فواصل دعائية اشد استفزازاً واحتقاراً لأبسط المشاعر الإنسانية.

لكن المقاومة لم تصمد طويلاً. لا بد من أن تتغلب الحشرية على الخصوصية، لا سيما بعدما احتدم الجدل حول السيناريو والحوار والبطل والبطلة وحول موقف العائلة والسلطة والتلفزيون وشركات الدعاية. لا يمكن الهروب الدائم، مثلما لا يمكن التحرر من الرأي عندما يبدو ان أحداً ما قرر نقل المواجهة الى عقر الدار، حيث لا مجال للتسامح، امام تلك الجرأة على حضرة الغياب التي يجري تحويلها الى مقام او صرح مفتوح لا يحترم حساسية جيل كامل وحرصه على قصيدته الأثيرة.

من طرف العين، جرى التقاط بعض المشاهد من حلقة اليوم الحادي عشر. لا، لم يحن الوقت بعد لتحويل السيرة الى دراما تلفزيونية. ما زال من المبكر إلقاء نظرة وداع ثانية على محمود درويش، بالأمس كانت جنازته، وكانت صلاة الكفر على رحيله. واليوم لا تزال قصيدته هي الأثر الوحيد المتبقي من شعب معذب لم يعد يمكنه أن يعوّض ذلك الغياب.

 عن السفير اللبنانية