عدلي صادق : حديث محمد رشيد عن الكفاح الوطني تجرؤ وقح فهو مجهول المنبت والمشرب

19/05/2012
فيما القضايا العامة، تغمر أوقاتنا، ينبغي أن يترفع الكاتب عن المناكفات الجانبية، وعن تناول أشخاص بعينهم وعن الانشغال بتفنيد تجاربهم. لكن التجرؤ الوقح، الذي يُظهره محمد رشيد (خالد سلام) فيما يطرح عبر وسائل الاتصال المتاحة، بات يمثل ظاهرة كالأطباق السوداء الطائرة، التي لا نعرف لها سبباً لصعود أو هبوط، ولا لظهور أو اختفاء. يتمادى المذكور، في محاولات إشغال الناس بفرضيات، وبمحاور موضوعات، وبحيثيات سياسية، استمراراً واستئناساً بسياق قديم، من الضحك على ذقون بعضنا القيادي (وسامح الله كل من ساعده على هكذا سياق، من الأعزاء الأحياء والأعزاء الأموات) بخاصة وأن معظمنا، كان يعلم منذ وقت مبكر، أن الرجل منذ شبابه، بدا موتوراً ومُريباً، ومجهول المنبت والمشرب، ثم غدا متربحاً لا يستحي، اغتنى بمال السُحت، ولم يتردد في التصرف متجاهلاً بؤسنا ومنتحلاً قضيتنا؛ ليتبدى كواحد من الهوامير الباذخين، في المنطقة العربية وفي سائر الجنوب الكوني!
كل شيء، توقعته من خالد سلام، إلا شيئاً واحداً، أعترف أنه فاجأني به وغلب مخيلتي. هذا الشيء هو تنطحه للحديث عن الكفاح الوطني، وعن بؤس التسوية، وعن ثورة مفتقدة أو منسيّة. نعم، إذ كيف يتوقع واحدنا، من شخص ظل مزهواً بصداقته لأبناء شارون، بل لأهل منـزل مجرم الحرب؛ أن يتقمص ثوب المبشّر بمرحلة كفاح جديدة، وأن يؤسس من وراء الكواليس، علاقات مع رموز «جهادية» لا أرغب في تسميتها، احتراماً لحقها في أن تتذوق ـ مثلما تذوق بعضنا القيادي ـ أطباق كلامه وتسريباته وتتقبل حتى مزاوداته على هذه الرموز فيما هي فيه!
يثقل عليّ، أن أروي هذه الحكاية بحذافيرها: ذات يوم، جاء موضع جلوسي في مكتب الشهيد الرئيس ياسر عرفات، محاذياً لمقعده. دخل خالد سلام، وفي يده كيس بلاستيكي من تلك التي توضع فيها المشتريات من المحال. وضع ما في يده بجانب الرئيس، وكان منظر الكيس، لافتاً من حيث أنه مجعّد ومستهلك، وتكاد ألوان الكتابة عليه تختفي من كثرة الاستعمال. اجتذبتني المفارقة الشكلية، إذ كيف يؤتى للرئيس بشيء في كيس رث، كأن يداً التقطته من القمامة. لاحظ الرئيس أبو عمار أنني أمعن النظر فيما جلبه خالد سلام، فظن أنه الفضول. أمسك أبو عمار بالكيس من جانب قدمه اليُمنى، وأعطاه لي لكي أرى ما فيه. وجدت شبه بكرة أو «كركارة» خشبية كبيرة، يكاد خشبها يُبلى كأنها ظلت ماكثة طويلاً في مرمى الأمواج على شاطىء البحر، وكان ملفوفاً عليها رقاقة من ورق قديم، أشبه بالبُرديات الفرعونية. أمسكت طرف اللفافة، فإذا بها كتابات عبرية. عندئذٍ فسر الرئيس أبو عمار الأمر لي قائلاً ان هذا.. (ونعت خالد سلام بصفة احدى ذوات الأربع) اشتراها من اليمن بـ «الشيء الفلاني» وهي نسخة أثرية من التوراة، يريد اهداءها باسمي لشارون، بمناسبة تسلمه رئاسة الحكومة، وهذا لن يحدث أبداً. وغمغم «الختيار» بكلمات يستفاد من معناها، أننا خضنا التجربة لعلنا نأخذ شيئاً، لكن أمرنا ونفوسنا لا يمكن أن تصل الى وداد مع شارون وأمثاله القتلة!
كنا في شباط (فبراير) 2001. أي بعد 28 شهراً من اندلاع الانتفاضة على أثر دخول شارون المتعمد، الى باحة المسجد الأقصى، لتشجيع المتطرفين اليهود، على التواجد المكثف فيه.
لقد نوّهت الى أنني لن أروي القصة بحذافيرها. وما أعنيه، أنني سأتحاشى مظنة التزيّد أو التبجح، عند نقل العبارات الإنكارية التي أفلتت مني. فقد تعودت أن أكون تلقائياً مع أبي عمار، وكان هذا حقاً ضمنياً، لكل من لم يبتذل بالتطلب وبكتب المساعدات. لكن ملخص ما قلته للرئيس ياسر عرفات حانقاً ومستنكراً، هو كيف يُسمح لأمثال هذه الأشكال المريبة، بالاقتراب منه أصلاً، وبخاصة في مثل هذه الظروف. والرجل، رحمه الله، كان يتحملني كريماً وأباً حانياً، وقد آمنت بأن مصارحته واجب، كلما سنحت الفرصة، ويعرف ذلك كثيرون ممن تواجدوا في بعض الأوقات، التي جمعتني بالعزيز الرئيس ياسر عرفات!
* * *
أقر بأن خالد سلام، نجح في خداع جزء معتبر، من الطبقة السياسية، التي تقود واحداً من أذكى شعوب المعمورة. لم يكن المذكور صحفياً ولا يجيد الإملاء باللغة العربية، وإنما هو مجرد مصور هاوٍ، كان يرتزق من وظيفة متواضعة في الصحافة الفلسطينية في لبنان. وجاءت بعدئذٍ، حكاية النقطة والمحطة والساتر، في قبرص، لكي يقف خالد سلام على رأس مجلة أسبوعية فلسطينية، يحررها الصحفيون. لكنه برع في مجال العلاقات العامة، التي هي قرينة الوشوشات والتربيطات، في ظروف مثل ظروفنا آنذاك. وعندما انتقل المذكور للرئاسة في تونس، وكنا في الحصار المالي، فهمت أن الرئيس ياسر عرفات، استعان به لاستثمار مبلغ كان متوافراً، تلافياً لصرفه. وقد أعطاني مرة، أمام أبي عمار، نص رسالة كتبها باللغة العربية، باسم الرئيس عرفات، لرئيس دولة ناشئة، لكي أنقلها الى الإنجليزية، فأذهلتني الأخطاء الإملائية التي بلغت درجة كتابة الاسم الموصول «الذي» بلامين وليس لاماً واحدة. لكن وضعه كان قد تبدل. قبلها، شاهدت خالد سلام مرة، ينسل بخفة، على أطراف أصابع قدمه، كالقط الخائن الخائف، في اتجاه مكتب الرئيس، يحمل له صورة مع قلم فضي تلتصق كتابته على سطح الصورة اللامع، وطلب من أبي عمار بأدب جم، أن يوقّع بخط يده، على سطح تلك الصورة التذكارية لأحد الناس. ولا أدري كيف دخل المذكور على خط الاستثمار العشوائي الذي كان بمنطق المقاولة. لكن الرئيس عرفات ـ رحمه الله ـ كان يميل الى «تشغيل» الأحصنة كلٌ منها بما لديه من مواهب، حميدها وخبيثها. فلمخبري الأنظمة المستبدة ـ مثلاً ـ عنده شغل، قوامه على الأغلب تطيير الرسائل لإضعاف زخم الاستهداف، وتلك رسائل يحقنها للمخبر ولا يقولها له مباشرة، بطريقة تبدو كأنها عارضة وتلقائية، من خلال حديث مع شخص آخر في حضور المخبر. المهم، أغلب الظن أن «الختيار» رأى في الفتى رشيد، ما يلائم خطاً للأعمال، نتوخى منه ربحاً سريعاً مضطرين اليه، ولن يحقق مبتغاه، دون الدخول الى فضاء الريوع ـ لا الأرباح ـ في بعض الدول الناشئة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وفي أوساط «البزنس» العربي الطفيلي المعروفة بـ «شطارتها» ولا أريد التوسع في الوصف!
بالطبع، نما رأس المال الذي أعطي للمذكور، على مستويين. أي نما نمُويْن، واحد يقرأ أبو عمار أرقامه الإجمالية فيشعر بالرضا وبإمكانية تسليك بعض الحال، والثاني يتكتم عليه خالد سلام ويختزن الفوارق الشاسعة بين أرقام النمو الأول وأرقام النمو الثاني. وبعد أوسلو، انفلتت أمور المذكور من كل عقال، حين سقط المحظور الإسرائيلي شكلياً، ليتعاطى خالد سلام مع ظاهر الأجواء الجديدة ويتناسى جوهرها أو باطنها الفلسطيني، بمنطق الشراكة التي تقيم جسور التوفيق بين قلوب الأوساط المتشابهة في إسرائيل والمنطقة، في مشروعات للريوع تعتصر المجتمعات. وكانت عناصر الفساد والسمسرة، من الجانب العبري، تجد ضالتها في ذاك المتخفف من كل قيمة، لكي تداري ما تفعله، وتتهرب من القوانين في دولتها، بتحميل الأوزار للطرف الفلسطيني. ومن أمثلة المفارقات الطريفة، أن ذلك السياق، أنتج واحدة من أكثر الذمائم إحراجاً للسلطة ولأبي عمار، وهي نادي القمار في أريحا. ففي تلك المفارقة، كان المروق الفاجر، يشتغل على خطين، واحد يتحايل على شريعة اليهود نفسها، ويفتح لفاسدي إسرائيل أبواباً لمتعة الميْسر، والثاني يضرب الوازع الضميري عندنا، أملاً في إيصالنا الى حال لا تكون فيه عندنا أية محرّمات. ونلاحظ هنا، في هذا المثال، أن إسرائيل، على الرغم من كل اقترافاتها وآثامها، لم تتحمل منح فاسديها فرصة لعب القمار، فأحالت أعباء الإثم الى ساحتنا!
أيامها، فهمت أن خالد سلام، اختزل الموضوع لأبي عمار بأسلوب ملفق بمعنى: سنعمل على جر الرأسماليين اليهود للخسارة في القمار، ولن يُسمح للفلسطينيين باللعب، وسنجعلهم يغوصون في أطيان الخسارة على كل صعيد. ولم يقدم أحد ـ للأسف ـ تعليلاً مخالفاً وشافياً، وهي أن إسرائيل تستثني نفسها من رميم القمار فتُحيله الينا وترتاح، ثم تدفعنا الى التوغل في أنماط عمل كريهة، بتواطؤ الشخص المُريب الذي عندنا!
ذلك السياق، كان يقتضي بالطبع، معاداة منحى التشدد الوطني في طلب الحقوق، مثلما يقتضي تعزيز خط الشراكة مع المحتلين على كل صعيد. بل إن مقاربات خالد سلام، بينما كان ينفش ريشه في تلك الظروف، وصلت الى حد لا يصدق، أشبه بالتنكيت والتبكيت السمج، وقد كتبت عنه في حينه في هذا المكان قبل نحو عشر سنوات. فقد حاول المريب أن يقول خذوا منا التنازل عن حق اللاجئين، مقابل 21 مليار دولار بأسعار أراضينا وعقاراتنا في سنة 1948. فقد تفتق ذهن الأيقونة التي أتحفنا الزمان بها، عن فكرة دمج «البزنس» الطفيلي والمضاربات، بحقوق اللاجئين، والباقي عندكم!
بالثرثرة الفارغة، يستحدث خالد سلام لنفسه خطاً سجالياً، لكي يُحيل بعض نقاط المساءلة عن المال الفلسطيني العام الذي في بطنه، الى وضعية خلافية. أي كأن المساءلة في حال طلب القبض عليه، ستكون موقفاً طبيعياً يتبناه، واجتهاداً يتعلق بالشأن الوطني العام، وأن هذا سيكون في تعليله، السبب الحقيقي لطلب الحق العام. هنا، يصح ارسال النصح، لمن يفكر في قبول خالد سلام في خندقه، بأن كلام المذكور، وموالاته، ورأيه المساند، سيكون حجة على الخندق وليس حجة له. فالرجل، أنشأ صفحة الكترونية، ازدحمت بالبكائيات الكاذبة عن النـزاهة والاستقامة والكفاح الفلسطيني وهجاء القيادة الفلسطينية، ربما لأنها لم تصعد الى الجبل. وها هي قناة مهمة كـ «العربية» تستعين به في برنامج حول «الذاكرة السياسية» فيبدو خالد سلام، في لقطات الإعلان عن البرنامج، متمايلاً كالزعماء التاريخيين، مثلما هي لقطات جمال عبد الناصر.
هنا، لا بد من إشارة لأمر مؤلم، وهو أن ضعف بُنية وتأثير التنظيم الفتحاوي، ومعه ضعف بُنية وتأثير ائتلاف المنظمة، هما اللذان أتاحا لشخص من هذا الطراز، أن يلعب دوراً على أكثر من صعيد. لا حاجة لأن أعدد المجالات التي اقتحمها خالد سلام، في السياسة والمال، فيما المثقفون والأمناء والمؤهلون مستبعدون. أخيراً، لا بد من التنويه، الى أن بعض الأصدقاء العراقيين المحترمين، الذين يعرفون خالد سلام، أضافوا لي الكثير من الحكايات عن السلوك الشخصي للرجل، لكنني لن أدخل فيما أعرفه وفيما أضافه لي هؤلاء الأصدقاء، وذلك لسببين: الترفع الأخلاقي عن الخوض في المسائل الشخصية، وترفعي المهني ـ ككاتب ـ عن الأخذ بالفرضيات الظنية والأقاويل. لذا لم تكن هذه السطور، إلا لمجرد الاعتراف بأن الرجل، قد غلب مخيلتي، إذ فاجأني من حيث لا أحتسب. فلم أكن أتوقع منه، أن يطرح نفسه مبشراً بالنضال الوطني الديمقراطي، وبالنزاهة، وحافظة قيّمة للذاكرة السياسية!