مقاومتنا المدهشة وجيشهم المخصي

23/09/2014

وطن للأنباء:


"أين تعلمت تخصي الجيوش؟"
مظفر النواب

إلى الشهيد هاشم أبو ماريا ـ سلامٌ عَلَيْكَ يارفيق، يَوْمَ وُلِدْتَ، وَيَوْمَ اسْتُشْهِدْتَّ وبُعِثْتَ حَيّاً.

مئة وثمانية وعشرون عاماً بالضبط تفصل الاشتباك الفلسطيني ــ الصهيوني المسلح الأول على أرض فلسطين عن العدوان الهمجي الأخير على غزة. أكثر من قرن وربع القرن مر منذ هاجم فلاحي الخضيرة والمْلَبِسْ، مقاومو فلسطين الأوائل، في عام 1886 المستوطنة الصهيونية الاولى "بتاح تيكفا" التي اقيمت على أراضيهم المنهوبة.

ورغم أن الذاكرة الثورية الفلسطينية ضد المشروع الصهيوني، كما الوعي العروبي في فلسطين، تعود حتى إلى ما قبل تلك المواجهة، إلى إنتفاضة القدس ويافا عام 1881 وإلى التعاطف مع ثورة عرابي في مصر 1881 وبعدها ثورة المهدي في السودان 1884، إلا أن زمننا هذا، زمن حرب غزة الأخيرة وما بعدها، مختلف جذرياً عما سبقه. فمنذ المواجهة الاولى وحتى وقت قريب، كان تخيّل سيناريو صعود المشروع الصهيوني على أرض فلسطين وتطوره كما حدث حتى الآن، وبسبب إسناد ودعم وتبني الإمبراطوريات الكبرى له أساساً، ممكن وواقعي. هذا الزمن انتهى. الكيان الصهيوني دخل مرحلة ما بعد قمة المنحنى، في القوة والمكانة والوظيفة، ولا طريق أمامه بعدها إلا إلى الأسفل.

زمن المقاومة

"الزمن لا يسير في مصلحة إسرائيل" . هذا ما استنتجه جورج فريدمان، مدير مركز ستراتفور الإستخباري، أثناء العدوان على غزة في 29 تموز 2014. والمقصود هنا طبعاً ليس زمن الحرب الأخيرة، بل المستقبل البعيد للكيان. السبب بسيط. فمهما أطلقت العنان لخيالك لِتَصَوُر أي سيناريو مستقبلي ممكن، آخذا بعين الاعتبار كل التحولات المحلية والإقليمية والدولية الممكنة التي تؤثر في مكانة وقوة الكيان، وأخذاً أيضاً بعين الاعتبار أي تحول سياسي أو اقتصادي أو عسكري محتمل وممكن في المستقبل يمكن أن يؤثر أيضاً في مستقبل الكيان، لن تكون النتيجة النهائية، وبأي حال من الأحوال، سيناريو يكون فيه وضع الكيان أفضل مما هو عليه الآن من القوة والمكانة.
لهذا السبب بالضبط كان أكثر ما أقلق عوديد عيران، المدير السابق لـ"معهد دراسات الأمن القومي" الصهيوني في جردته لحسابات خسائر الحرب الأخيرة ما سماه "التوتر" في العلاقة الأميركية ـــ الإسرائيلية على اعتبار أن أميركا هي أهم عوامل قوة الكيان. وعيران، كغيره من "خبراء" الكيان الذين يشغلهم موضوع العلاقة مع أميركا منذ سنوات، يقلق لأن الموضوع أعمق من مجرد قضية توتر موقت ينتهي بمرور الحدث، أو أزمة شخصية بين اوباما ونتنياهو تنتهي برحيل أحدهما. بل هي قضية وجودية في المقام الأول. فالصهاينة ينظرون إلى أميركا كـ"أهم مركبات الأمن القومي الصهيوني" كما قال وزير الحرب الصهيوني يعلون قبل عام تقريباً، وكما أكدت كل وثائق مؤتمر هرتسليا منذ عام 2011 حتى المؤتمر الأخير في حزيران 2014. واللافت أن عيران تحديداً، وهو يعتبر أكثر محللي المعهد الصهيوني حنكة، رغم عوامل الغرور والعنصرية التي تطبع تحليلاته، كتب عن الموضوع باستمرار منذ عام 2006 وكانت هذه القضية تحديداً بوصلته لقراءة تبعات كل مواجهة عربية ــ صهيونية، وهو صاحب مصطلح "أميركا المختلفة" الذي صاغه مع أوين الترمان في أعقاب المناظرة الرئاسية الأميركية الثالثة بين أوباما ورومني. "أميركا المختلفة"، كتبوا، ستظل تدعم الكيان بشتى الطرق (حتى لا يساورنا نحن العرب أي وهم)، لكن "في قضايا الحرب والسلام، ربما يكون على "إسرائيل" أن تفرز آلامها من تلقاء نفسها". أميركا، هم يعتقدون، ربما لن تقاتل حروب "إسرائيل" كما فعلت على الدوام. و"التوتر" المذكور والمقلق لهم ليس ناتجاً طبعاً من غضب أميركي حقيقي من جرائم الكيان، فغضب الإدارة الأميركية من الجرائم هو نكتة سمجة لمن يعرف شيئاً قليلاً عن تاريخها وعن جرائمها، بل هي قلقة أساساً من تبعات الهمجية الصهيونية على مستقبل الكيان الصهيوني ذاته في ظل إدراكها للتحولات العالمية والإقليمية والتحول في وظيفة "إسرائيل" في خدمة الإمبراطورية.

القلق ينبع تحديداً من إدراك المحللين الصهاينة لثلاث قضايا أساسية تضرب بعمق في أحد أهم اسس قوة ومكانة الكيان.

الاولى هي مكانة وهيمنة أميركا، أهم عناصر القوة الصهيونية، المتراجعة في العالم والمنطقة وهو ما شغل وثائق مؤتمر هرتسليا في 2011 بشكل لافت فضح العقل السياسي الصهيوني وعرّاه كعقل استعماري يدرك أن الكيان ليس إلا امتداداً للحالة الإمبريالية الغربية – فمن جهة تقول الوثيقة "الخطوط الأمامية للمسرح العالمي أصبحت أكثر تنوعاً"، ومن جهة اخرى "الولايات المتحدة تتراجع إلى الداخل ما يؤثر على مكانتها العالمية وقدرتها على التأثير وهذا سيؤثر سلباً بحلفاء أميركا". كلمة السر هنا التي تقلق الكيان هي "موازين القوى" التي ستختل بشدة مع التراجع الأميركي. القضية الثانية هي الأهمية الوظيفية للكيان التي أصابتها الحروب مع المقاومة منذ 2006 وحتى 2014 بأضرار غير قابلة للإصلاح، واسست للانتقال من مرحلة التشكيك بوظيفية الكيان إلى الإقرار بتعرضها لضربة قوية وتحولها أحياناً لعبء. أميركا لن تتخلى عن الكيان، لكن وظيفية الكيان أصبحت في موقع المشكوك بها بشدة، وانتصارات المقاومة منذ 2000 في لبنان أبطلت مفاعيل هزيمة 1967 التي أعطت الكيان الأهمية الوظيفية. القضية الثالثة هي القلق من تحول نظرة العرب لكل من "إسرائيل" وأميركا، ولأنفسهم ايضاً، كما جاء في تقديرات مؤتمر هرتسليا 2011 الذي حدث في أوج الانتفاضات العربية، وهي قضية تعزز أهمية مقولة السيد حسن نصرالله أن "إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت" التي لا يمكن المبالغة بأهميتها الكبيرة مهما تم التشديد على ذلك. هذا ما جاء في الوثيقة بالحرف: "الرؤيا الشرق أوسطية العامة عن تراجع القوة الأميركية تضرّ بشكل كبير بمكانة/ وضع حلفاء الولايات المتحدة الاستراتيجية، ومن ضمنها "إسرائيل". لا يُقْلِقْ الكيان التراجع الأميركي فقط، بل، وأيضاً، كيف يفكر العرب بأميركا.

بسبب ما سبق، يبدو استنتاج فريدمان التالي دقيقاً: "لا يمكن إسرائيل أن تكون أكثر أمناً أو قوة مما هي عليه الآن". لكن، يمكننا نحن القول إن العكس تقريباً هو الحال في الجانب العربي والفلسطيني حيث يمكن دائماً تخيّل سيناريوهات عديدة وواقعية جداً يمكن أن يكون فيها حال العربي والفلسطيني أفضل وأقوى مما هو عليه الآن. علينا أن نستنتج أن الكيان الصهيوني دخل مرحلة ما بعد قمة المنحنى، في القوة والمكانة والوظيفة، ولا طريق امامه بعدها إلا إلى الأسفل. أما نحن العرب، والمقاومة العربية تحديداً، فيمكن للخيارات المستقبلية لو كانت صحيحة أن تضعنا على الطريق الصحيح لضرب عوامل القوة الصهيونية وتعزيز عوامل القوة العربية (هذا طبعاً يحتاج بالإضافة للمقاومة الفذة إلى قيادة سياسية غير مخصية كالقيادة الفلسطينية).

مقاومتنا المدهشة

العدوان على غزة جرى إذاً في أفضل الظروف الممكنة إقليمياً ودولياً وفي أفضل الشروط السياسية والعسكرية للكيان على الإطلاق. وهذا التقدير الذي يكاد يحظى بالإجماع يجعل من الانتصار البطولي للمقاومة إنجازاً هائلاً ويعني أن استثماره السياسي المتعجل، بدل البناء عليه للمواجهة المقبلة، جريمة لا تغتفر. ما حدث أن العدوان الأخير جرى ضمن الشروط القصوى التي تعطي الكيان أفضيلة في موازين القوى التي ربما لن تتكرر في المستقبل وكانت النتيجة رغم كل ذلك، وكما رآها خبراء العدو أو القريبون من العدو، وليس العرب، ذات تبعات استراتيجية. العدو قاتل في أفضل الظروف الممكنة له وفي أوج قوته والنتيجة الميدانية كانت كارثية له (أما الفشل السياسي الفلسطيني في ترجمة هذا الانتصار، إن لم نقل العمل بدأب وهمة على قتله، فربما لن يجيب عليه سوى محاكمات ثورية حقيقية للنخبة السياسية الساقطة من كل القوى. أما الحديث عن مراجعة للمرحلة السابقة فلقد أصبح مملاً ويفترض أن القيادة فعلاً ستستمع لصوت العقل وليس لديها اجندة ومصالح تحكم تصرفاتها).
بعد ثلاثة أيام من "إنزال" ناحل عوز، في 28 تموز، استنتج أري شافيت كبير كتاب التحقيقات في "هآرتس" أنّ "حماس فجرت لنا فقاعة إسرائيل" وأنه "لا يوجد لدى "إسرائيل" رد مقنع للحرب غير المتكافئة". شافيت بدأ بالقول إن "إسرائيل"، "الدولة ذات السماء المثقوبة" في "بداية حزيران تختلف جداً عن "إسرائيل" في نهاية تموز" محذراً من خطر وجودي كشف عنه تفجير الفقاعة التي خلقتها "القبة الحديدية" التي نعرف اليوم أنها كانت ورقية في أحسن الأحوال. صورة الكيان الآمن والسعيد (عالم السوشي والنازداك وبرامج الأخ الأكبر. عالم الشركات الإبداعية والتطبيقات والشركات التي تحظى بأختام التصديق من "منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي") لم تكن إلا فقاعة فجرها أبطال غزة مع الصاروخ الأول والنفق الأول والاشتباك الأول مع جنود النخبة. لهذا استنتج ارئيل ايلان روث، مدير "معهد إسرائيل" في "كيف انتصرت حماس" في منتصف الحرب أن الكيان "يستطيع ادعاء النصر التكتيكي"، تحديداً بسبب السلاح المتطور، لكنه بلا شك "تعرض لهزيمة استراتيجية". ولهذا السبب أيضاً أجمل أمير أورن في "هآرتس" نتيجة الحرب كما يلي: "بعد سبعة أسابيع: "إسرائيل" صفر، حماس 1"، مؤكداً أن وضع الفلسطينيين رغم الكلفة البشرية للحرب أفضل، وهذا بالضبط، كما أشار "هو هدف/ سبب استخدام القوة أصلاً". ولهذا السبب كذلك كتب الصهيوني، السجان سابقاً في الكيان الصهيوني والصحافي حالياً في أميركا، جيفري غولدبيرغ في "ذي أتلانتك" فزعاً "لماذا تخسر "إسرائيل" حربا تربحها؟"، ولهذا أيضاً كتب جايمس دورسي في "هافنغتون بوست" مفصلاً انتصار المقاومة ليجيب عن تساؤل "هل ربحت حماس حرب غزة؟".

لهذا، فحين تقرأ تقويمات المواجهة العسكرية في الميدان لدى محللي العدو في البداية وفي النهاية (حتى لو لم تعمل على احتواء البعد الدعائي والغرور العنصري الذي ميز القراءات الاولى في البداية وكان جزءاً من المجهود الحربي الصهيوني) عليك أن تستنتج أن الكيان في مأزق جدي، وأن الساعة الاستراتيجية لا ولن تسير في صالحه بعد اليوم. هذا ربما هو المعنى الحقيقي للانتصار في غزة. في اليوم السابع عشر للعدوان، مثلاً، كتب يوسي ميلمان (صحافي ومحلل إسرائيلي من خلفية استخباراتية) على صفحة "القناة 24" الصهيونية أن "الحرب دخلت مرحلة الجمود وتحولت إلى حرب استنزاف وأن الطرفين قد انهكا". نسي ميلمان الذي استنتج أيضاً في ذلك اليوم أنّ "هذه حرب بلا نتيجة عسكرية أن الحديث يدور عن واحد من أقوى جيوش العالم مقابل النقطة الأضعف في محور المقاومة وان تقييماً من هذا النوع ليس أقل من اعتراف مدو بالهزيمة.

وحين تقرأ أيضاً توصيات بعض الخبراء الصهاينة المغرورين جداً في منتصف الحرب حول خيار قرار 1701 فلسطيني والبحث عن حل مع غزة عبر الامم المتحدة لا يسعك إلا أن تتساءل: لو كان بإمكان استخدام القوة العسكرية المفرطة تحقيق الأهداف السياسية، أو على الاقل تحسين شروط التفاوض، وهو هدفها الأساسي عادة، فلماذا لم يمارس العدو الصهيوني رياضته المفضلة بالبصق على خيار الامم المتحدة. لكن بطولات مقاومة غزة كسرت عنجهية محللي "معهد الأمن القومي الصهيوني"، وبعد الحرب مباشرة بدأ القلق يخرج للعلن بعد غرور مفرط في التحليل. فحين يبدأ معلق من معهد الأمن القومي الصهيوني تقويمه للحرب بغرور مفرط ويضع شروطه لاستسلام غزة وينتهي في نهاية الحرب أشبه بصائب عريقات صهيوني فالكيان حقاً في مأزق. لهذا، فما قرأناه لاحقاً عن فزع الكيان من المقاومة في الشمال (حزب الله) هو حقيقي جداً. فخيار العدوان على غزة كان، من ضمن أسباب عديدة، بسبب كونها الحلقة الأضعف في محور المقاومة. في الحرب المقبلة، وهي مقبلة، يمكن للمقاومة أن تكون في وضع أفضل، لكن، لا يمكن قول الشيء ذاته عن الكيان.

ملحمة الشجاعية: هكذا سحق الأبطال الجيش المخصي

من يقرأ "الكلفة الإنسانية للحرب على العراق" كمثل ساطع على جرائم الحروب الحديثة والعنف المفرط للآلة العسكرية الأميركية سيصاب بصدمة شديدة من احتقار عسكر أميركا لحياة الآخرين وسيصدم من وحشيتهم وقدرتهم على ممارسة العنف والتدمير، لكن حين تعلم أن جنرلات البنتاغون ذاتهم اصيبوا بالصدمة لما فعله الصهاينة في الشجاعية والعنف المفرط الذي استهدف المدنيين كما قدروا (بسسب معرفتهم بالسلاح المستخدم) فستعرف جيداً أن أمراً جللاً حدث في 20 تموز أفقد العدو الصهيوني صوابه، برغم أن العنف الهمجي هو ظاهرة أصيلة في الاستعمار الكولونيالي كما يعلمنا علم الاستعمار المقارن – كان تسييساً رخيصاً جداً أن يجادل البعض أن ما حدث في سوريا شجّع الكيان على العنف في غزة.

هذا ما فعله المجرمون في الشجاعية: بعد قصف مدفعي وحشي في ليل السادس عشر من تموز قامت ثلاث وحدات من الجيش يتقدمها عناصر لواء الغولاني بالاختراق البري في الشجاعية في السابع عشر من تموز بهدف تدمير الأنفاق وكسر تشكيلات المقاومة. سارت الامور على ما يرام في اليومين الأولين ولم تواجه الوحدات الثلاث مقاومة عنيفة حتى ظنوا أن المهمة على وشك الإنجاز. جاء اليوم التالي، التاسع عشر من تموز، وبدأت أفواج المقاومين بالخروج من بطن الأرض وبدأت المواجهة وجهاً لوجه، رجلاً لرجل، يداً ليد، ومن مسافة الصفر. كانت تشكيلات المقاومة عالية التدريب والتنظيم بشكل مدهش صدم جنود النخبة الذين لم تتأخر علامات الجبن والخوف والتقهقر من الظهور عليهم منذ الساعات الاولى. اشتبك المقاومون معهم في شوارع وأزقة الشجاعية وتحول القتال الى مواجهات شرسة جداً بين وحدات صغيرة من الطرفين في ظل عجز واندهاش جنود العدو عن تحديد أماكن المقاومين: من أين يأتون وأين يذهبون!؟ مواجهة الشجاعية كانت اسطورية بكل ما للكلمة من معنى. معركة واحدة استمرت أكثر من ثماني ساعات متواصلة ورويت بطرق مختلفة لكن الجوهر واحد: ارتعب جنود النخبة وترددوا حتى في التقدم لانتشال جثث رفاقهم خوفاً من انفجار العربة التي استهدفتها المقاومة. وبعد جدل وقرار نهائي من قائد "لواء غولاني" تم إرسال وحدة الهندسة لإقامة ستار ترابي حول العربة. لكنهم اكتشفوا أنّ المقاومين كانوا قد انتشلوا جثة أرون من داخل العربة المشتعلة ولم يخشوا مثلهم من احتمال انفجار الذخيرة داخل العربة. كان المقاومون على استعداد لاقتحام العربة المشتعلة والمليئة بالذخيرة من أجل فرصة أسر جندي أو جثة لإطلاق سراح الأسرى، فيما ارتعب جنود "النخبة" من التقدم لإنقاذ رفاقهم (ألم أقل لكم إنهم مخصيون).

الرواية الصهيونية تقول إنّ ناقلة جند مصفحة تعطلت في أحد أزقة الشجاعية في الساعات الاولى من صباح 20 تموز. خرج جندي وضابط من العربة لإصلاحها. في تلك اللحظة بالضبط أطلق المقاومون صاروخاً مضاداً للدروع أدى إلى انفجار العربة واشتعال النيران بها (الرواية الأميركية، كما نقلها مارك بيري عن البنتاغون، تقول إنّه تمّ تفجير لغم أرضي بالعربة المصفحة). العربة المصفحة تدمرت كلياً وقتل الجنود السبعة بداخلها. وفي الوقت ذاته الذي كان جنود وحدة النخبة في غولاني يجادلون قائدهم حول قراره بالتوجه لانتشال الجثث قبل وصول المقاومين إليها معبرين عن قلقهم من انفجار الذخيرة في داخل العربة، رصدت طائرة من دون طيار صوراً بالأشعة تحت الحمراء لخمسة أشخاص (يمكن الحسم الآن أنهم مقاومون) يقتربون من العربة، لكن لم يكن حينها ممكناً تقدير هويتهم. وحين تقدمت وحدات الإنقاذ لاحقاً لانتشال جثث قتلاهم كان المقاومون بانتظارهم واشتبكوا معهم وعن قرب في معركة شرسة جداً انتهت بانسحاب جنود النخبة بعد تكبدهم خسائر رفعت عدد القتلى عندهم في معركة الثماني ساعات إلى ثلاثة عشر قتيلاً. نعم، انسحب جنود النخبة من المواجهة، وحين تمكن سلاح الهندسة لاحقاً من الوصول إلى العربة المحترقة، قاموا بجرها أيضاً تحت إطلاق نيران المقاومة ما جعلهم يدوسون بعرباتهم المصفحة أشلاء جنودهم التي كانت تتساقط من العربة المدمرة.

لم يستطع جنودهم المخصيون مواجهة أبطال المقاومة، فصدر الأمر بالانتقام بإحراق الشجاعية وإطلاق النار على كل ما يتحرك. على الفور بدأت إحدى عشرة كتيبة مدفعية صهيونية مسلحة بـ 258 قطعة مدفعية (155 ملم) من نوع "سولتوم إم 71" و"بالادين إم 109" الأميركية الصنع كل منها تطلق ثلاث قذائف شديدة الانفجار في الدقيقة، بقصف حممها على الشجاعية. وفي أقل من أربع وعشرين ساعة، قصف المجرمون الحيّ السكني الصغير بأكثر من سبعة آلاف قذيفة شديدة الانفجار، منها خمسة آلاف قذيفة في الساعات السبع الاولى للعملية فقط. الجنرلات الأميركيون المذهولون من هذا الإجرام قدّروا أن ما حدث لا يهدف إلا لقتل أكبر عدد ممكن من المدنيين بعد فشل مواجهة المقاومين. ما صدم جنرلات البنتاغون، كما نقل عنهم مارك بيري، ان حجم نيران المدفعية والقوة التي استخدمت في الشجاعية (إحدى عشرة كتيبة) هو ما يستخدمه الأميركيون الذين يعتمدون القوة النارية الهائلة في حروبهم عادة لإسناد فرقتين كاملتين بحسب أحدهم، أو فيلق كامل بحسب جنرال متخصص في سلاح المدفعية.

انتقام الشجاعية

ربما يكون أكثر ما صدم القيادة العسكرية الصهيونية هو ما حدث في 28 تموز في ناحل عوز الذي غيّر مجرى ومعنى المعركة كلياً. الصدمة لم تكن فقط أن تسعة من الجنود الصهاينة العشرة الذين قتلوا يومها كانوا قد قتلوا خارج قطاع غزة فقط. الصدمة كانت أنّ النفق الذي انطلق منه المقاومون "الخمسة أو السبعة"، بحسب التقديرات المختلفة، "مسلحين حتى الأسنان بالأسلحة الاوتوماتيكية، والقذائف المضادة للدروع، والمتفجرات" باتجاه ناحل عوز يبدأ أصلاً في الشجاعية. بعد اسبوع من الدمار الوحشي استنتج قادة الصهاينة ومحللوهم العسكريون أن "معركة الشجاعية لم تنته" وأنه بالرغم من تحول "الشجاعية إلى مدينة أشباح" إلا أن المقاومين كانوا لا يزالون هناك يخططون وينفذون الهجمات على القوات الصهيونية من بطن الارض في الشجاعية. لذلك، استنتجوا أيضاً أنه لا يوجد علاج ناجع للأنفاق على الإطلاق. أقصى ما يمكن لهم فعله فقط هو تدمير القسم الذي يمتد خارج غزة من الأنفاق التي يتم اكتشافها. كان هذا التحول في مجريات الحرب مفصلياً حتى أنه قرع ناقوس الخطر عندهم. فالأفضلية التكتيكية التي تمتع بها الصهاينة بفعل السلاح المتطور والتي تغنى بها مدير "معهد إسرائيل"، رغم اعترافه بانتصار استراتيجي للمقاومة، سقطت بفعل المفاجأة في ناحل عوز وبفعل تبعات ما حدث ذلك اليوم. اختلف معنى الحرب بعد ذلك اليوم، وما حدث أصبح "صورة مصغرة عن الحرب" كلها كما وصفت صفحة "ديبكا" الاستخبارية.

انتقمت الشجاعية بعد المجزرة بأسبوع واحد فقط. انتقمت وأثبتت مرة اخرى أن الاستراتيجية العسكرية القائمة على القوة النارية الهائلة والقوة الجوية ليست "جديدة – قديمة" فقط، كما سميت في أعقاب حرب تموز 2006، بل فاشلة بالمطلق حين يتعلق الأمر بالحرب غير المتكافئة (إلا إذا اعتبرنا قتل الأطفال مؤشر انتصار). بعد ناحل عوز يجب القطع أن ما حدث في الشجاعية قبلها باسبوع، في 20 تموز، لم يكن له إلا معنى واحداً: إدراك العدو للهزيمة المرة. من كان هناك رأى نخبة جيشهم تهرب من الميدان. لهذا، مجرم من سيغفر ما حدث في الشجاعية وخزاعة بعده، ومجرم من يفكر بالرحمة لهم في أي مواجهة مقبلة، ومجرم وخائن من يفكر بالمساومة على سلاح المقاومة.

خاتمة: إلى مقاوم

هذا ما قاله "راؤول كاسترو" لـ"تشي غيفارا" في أول لقاء لهما في المكسيك قبل نجاح الثورة الكوبية: "إن من أشهر السلاح مرّة واحدة في وجه الإمبريالية لا يمكن أن يُسقطه من يده، وإن فعل فالإمبريالية ستحفر قبره".

كتب: سيف دعنا