نظام 'القوقعة' في سورية ...بقلم: الياس خوري

31/01/2012
العودة الى كتاب مصطفى خليفة 'القوقعة' (دار الآداب 2008) اليوم وامام سيل الدم السوري المتدفق، تأخذنا الى الواقع الخفي الذي هيمن على الحياة السورية طوال اربعة عقود وقاد في النهاية الى هذا الانفجار الثوري الكبير الذي يجتاح البلاد من اقصاها الى اقصاها. الناس يصرخون بالحرية، بينما يقوم الاستبداد بتحويل كل مدن سورية ودساكرها الى ملعب للموت، حيث ينفلت عنان قطعان القتلة والشبيحة من اي قيد، ويصير الجسد الانساني ملعبا للعذاب والقهر.
يبدأ هذا الكتاب بمفارقته الكبرى. المخرج السينمائي السوري العائد من دراسته في فرنسا الى بلاده، يعتقل في المطار، ويجد نفسه في سجن تدمر الرهيب. الكتاب هو شهادة عن عبثية القمع وجنونه ووحشيته. 'القوقعة' ليست رواية، انها مذكرات سجين سياسي اعتقل لسبب يجهله وقضى في المعتقل ثلاثة عشر عاما وثلاثة اشهر وثلاثة عشر يوما، واكتشف قوقعته التي فرضها عليه وحش القمع.
الحكاية اكثر غرابة من الخيال، مواطن مسيحي يعود الى بلاده فيعتقل بتهمة انتمائه الى جماعة الأخوان المسلمين! ويرّحل الى سجن تدمر ليعيش في قمعين: وحشية السجن من جهة، وعزلته وسط مجموعات الاخوان، من جهة ثانية. اضطهاد مزدوج، وعبث يتفوق فيه الواقع على الخيال الأدبي، فتصير 'محاكمة' كافكا تفصيلا امام الهول الذي عاشه بطل هذه الحكاية.
ما ذنب الرجل، وكيف صار الجهر بأصوله المسيحية عنوانا لسخرية الجلاد الذي اعتقد انه يدعي هذا الانتماء خوفاً، وعندما يصر المتهم ويقول ايضا انه ملحد يتم ادخاله في متاهة الوحشية، حيث سيجد نفسه وحيدا ومنبوذا في مهجع السجن، وسيحكم عليه بالصمت الكامل.
غرائبية هذه البداية سوف تتحول الى تجربة خاصة وسط عالم الغرائب الذي يختزنه سجن تدمر. عالم يختلط فيه الموت بالنتانة، والقهر بالقتل الاجرامي، والسادية المفرطة بالفاشية التي بلا حدود.
كي تأكل تتعرض للضرب الوحشي وانت تجلب الطعام، وكي تذهب الى الحمام تهان وتعذب وتضرب. حتى الهواء الذي يتنفسه السجين صار ثمنه دماً.
من شرب البالوعة وابتلاع قاذوراتها الى الأمراض المزمنة والتجويع، ومن القتل المجاني من اجل التلذذ بالقتل الى المشانق المنصوبة في السجن. محاكمات تبدأ وتنتهي خلال دقيقة واحدة، واعدامات بالجملة، وطبيب يقتل الاطباء المساجين، وجرب وسلّ وموت.
في تدمر رسم نظام حافظ الأسد ملامحه، يتأله الديكتاتور عبر سحق الناس كأنهم حشرات. لا قيمة لأي قيمة انسانية او حيوانية. عالم بلا قيم، يحكمه سجانون توحشت ارواحهم، وماتت انسانيتهم، فصاروا جزءا من آلة تقوم بافراغ جسد السجين من روحه، كي يصير عبدا للموت. فالعبودية في تدمر لا تقدم اي أمل للعبيد كي يتقمصوا عبوديتهم، فالعبد هنا يجب ان يشعر انه مهان ومهدد، عليه ان ينبح كالكلب، كي يخرج المه 'من قحف الرأس والعينين'. ألم بلا صدى، وموت بلا معنى، ومجزرة يومية تحيل الجسد الانساني ركاماً.
سجين يجبر على ابتلاع فأر! وسجانون تحولوا الى ادوات للجريمة، تلذذ بالقتل والتعذيب، وانحلال اخلاقي يحوّل السجناء الى اشلاء ممزقة.
سبق للشاعر السوري فرج بيرقدار ان روى في كتابه 'خيانات اللغة والصمت' مقاطع من تجربة تدمر الرهيبة، حيث لم يعد الشاعر يمتلك سوى لغته يلتجىء اليها بحثا عن المعنى وسط المعاني التي تلاشت كأجساد السجناء. فرج كان سجيناً سياسيا وشاعراً، دفع ثمن معارضته للنظام سنوات القهر التدمري، اما مصطفى خليفة او بطله فهو مجرد سجين، اي ضحية مطلقة، انه المواطن السوري العادي الذي وجد نفسه من دون ان يدري في مسلخ بشري اطلق عليه مجازا اسم السجن.
لا يشبه سجن تدمر الصحراوي سوى تجربة تزمامارت في المغرب، حيث عاش السجناء في القبور في انتظار الموت. هنا ايضاً اضطر بطل هذه الحكاية ان يحفر لنفسه قبراً خاصاً يتقوقع فيه، ولا يرى العالم سوى من ثقب صغير في الحائط.
صمت والم واسى، وعلاقة مأسوية بهشاشة الجسد وروح تنكفيء على ذاتها، وتتدفأ بموتها، وذاكرة تصير بديلا من الواقع. مأساة بطل هذه الحكاية مزدوجة، لأنه سجين مرتين، ولا شيء يحميه من وحدته، سوى شفقة بعض السجناء الذين حاولوا كسر مقاطعة الاسلاميين لهذا السجين غير المرغوب فيه، من دون ان ينجحوا.
لا اعرف كيف احلل هذا الكتاب، تجربة مكتوبة بالأسى، ويأس يصل الى ما بعد اليأس، وقصة عن الانسان الذي يريد الاستبداد لإنسانيته ان تتحلل في جسده المنهك والمهان والمحطم.
القوقعة هي استعارة لسورية كلها، استعارة لآلية نظام قائم على سوء التفاهم بين الدكتاتور والشعب. كي يتأله الدكتاتور على المواطن/الانسان ان يفقد انسانيته ويصير حيواناً، وهذا لا ينطبق على السجناء فقط بل ينطبق على السجانين ايضاً وعلى ضباط الأمن الذين يرتعدون خوفاً حتى عندما يخيفون ضحاياهم.
تنتهي القوقعة بانتحار نسيم، رفيق بطل هذه الحكاية، نسيم الرقيق والحزين يهدي انتحاره لصديق ويموت لأنه اكتشف انه لم يخرج من السجن حين خرج منه، بل ان السجن لا يزال قابعا داخل روحه المضطربة.
حين قرأت 'القوقعة' عند صدوره منذ ثلاث سنوات احسست بالاختناق، حاولت ان اكتب عنه فلم استطع، ماذا تكتب على كلام مكتوب بحبر الألم؟
لكن كلمة صغيرة قرأتها على احدى صفحات 'الفايس بوك' وفيها كتبت آية الأتاسي انه صار في مقدورها ان تقرأ هذا الكتاب اليوم بعد اندلاع الثورة السورية، دفعتني الى اعادة قراءة الكتاب، واكتشفت ان هذا الكتاب يأخذنا الى الأعماق التي انفجرت في درعا وعمت كل سورية، وان هذه الثورة التي انطلقت من اجل استعادة كرامة الانسان لا تستطيع ولا يحق لها ان تتوقف قبل ان يتحرر الانسان السوري، ويغسل روحه.
كما اكتشفت ان مفارقة 'القوقعة' مع تجربة المهجع الاخواني تستحق ان تكون درسا للعرب جميعا في معنى ان تكون استعادة الكرامة جزءا من نضال ديموقراطي يعترف بالآخر، ولا يفرض عليه قوقعة جديدة.
وهذا ما يعرفه شباب الثورة المصرية والتونسية جيدا، وعلى الثورة السورية ان تعيه وهي تدخل في منعطف اسقاط النظام.
عن القدس العربي