الطائفية كخيانة عظمى!...بقلم: ميشيل كيلو

28.06.2011 09:36 AM

هناك نمط من العقل يعتقد أن الطائفية يمكن أن تحمل بمضامين معاكسة لها وغير طائفية: كأن تكون وطنية واجتماعية، خاصة إن كانت الطائفة المعنية مرتبطة بالسلطة، وتحولت إلى طائفة / دولة، يقال إنها تنجز مهاما وطنية واجتماعية تتخطى طابعها وارتباطها الطائفي الخاص، مما يجعل منها طائفة غير طائفية، طائفة مشحونة بهموم وأعباء الدولة، طائفة وطنية.

- وهناك من قال إن الطائفة يمكن أن تتجاوز نفسها إذا ما تكونت في بيئة ثقافية مفتوحة على الآخر، في الخارج والداخل، شأن الموارنة في لبنان، الذين حملوا الإمارة طيلة عقود كثيرة ثم لعبوا دورا رئيسيا في توسيع مجالها ونفوذها في لبنان ما بعد الاستقلال، وحكموا عبر توازن معين قام على توافق عابر للطوائف رضي معه الآخرون بدور قيادي لها خصت نفسها عبره بمزايا لم تتوفر لغيرها، رغم ما واجه هذا الترتيب من مقاومة ونجم عنه من مشكلات وأزمات كادت تودي بلبنان الوطن والدولة مرات متكررة خلال نيف وقرنين.

- وهناك من قال إن الطائفية هي تشكل ما قبل مجتمعي يعيش في البلدان التي لم تبلغ بعد مرحلة من الاندماج الداخلي تجعل المنتسبين إلى طوائفها المتعايشة أو المتصارعة يتخطون انتماءهم الضيق إليها، ويرون أنفسهم بدلالة انتماء أعلى، جامع، يسمونه عادة الانتماء الوطني. يقال هنا : إذا كان التعايش هو أساس الوجود المشترك، فإن الطائفة تذوب في نسيج وطني جامع، أوسع منها. أما إذا كان التنافر هو سمة هذا الوجود، فإن تشكل نسيج وطني يكون متعذرا، ويعيش المجتمع الذي يضم الطوائف في أزمة مستعصية تنفجر بين حين وآخر، كما يؤكد مثال لبنان أيضا.

- وهناك طائفية لا علاقة لها بالدولة أو السلطة، هي ضرب من انتماء الفرد إلى جماعة ما قبل شعبية، لا يلعب انتسابه إليها أي دور يتخطى حدودها الخاصة، الضيقة، التي لا تحول دون الانتساب إلى وحدة أعلى، مجتمعية ووطنية هي الشعب، فالطائفية لا تناقض أو تناهض هنا التشكيلات التي تتعداها، سواء بالنسبة إلى الدولة والسلطة أم بالنسبة إلى الأفراد، فهي إذن علاقة بين الفرد وجماعة معينة، ليست مغلقة أو في تعارض مع غيرها.

ليس كل انتماء طائفي مرفوضا، فالمجتمعات تتكون في كل مكان من تشكيلات متنوعة، تراتبية الطابع، كثيرا ما تبدأ بالطائفة تحت وتنتهي بالأمة فوق، دون أن ينفي أي تشكيل منها غيره أو يضع المنتسبين إليه في عداء مع بقية المواطنين الذين لا ينتمون إلى الطائفة المعنية. هذا النمط من الطائفية ليس مؤذيا، بل هو نمط مجتمعي بكل معنى الكلمة، وربما كان ضروريا لإقامة توازن مقبول بين مكونات الدولة الداخلية، وأعتقد أن الأستاذ عماد يوسف من مدينة طرطوس السورية، الذي كتب ملاحظة على الفيسبوك طالب فيها باعتبار 'الطائفية خيانة عظمى'، لم يكن يقصدها، بل كان يقصد الطائفية التي تلعب دور حاجز يفصل مكونات المجتمع بعضها عن بعض، ويضع أفرادها بعضهم في مواجهة بعض، ويكرس مصالح جزئية وخاصة متعارضة الطابع والهوية، إن تبلورت وتوطدت وغدت أساسا لأي انتماء كان فيها تربة خصبة لنمو أزمات متتابعة، متنوعة الأشكال خطيرة النتائج، تفرغ الدولة من مضمونها والمجتمع من وحدته، وتضعهما على حافة الهاوية بصورة دائمة.

هذا الضرب من الطائفية، المغلق كبنية والمفتوح كانتماء متوجس وانفعالي، يكون في العادة خطيرا لأنه منتج سياسي تقيمه وترعاه سلطة تفتقر إلى قاعدة شعبية جامعة وتاليا حقيقية، فهو كالديناميت القابل للانفجار في أية لحظة. كما أنه يكون متخثرا لأنه نتاج وركيزة المجتمع المتخلف، فهو قليل التمايز بطيء الاستجابة لغيره قليل التفاعل معه، أبرز أمثلته طوائف الهند، التي تخثرت منذ آلاف السنين وركدت وانغلقت على ذاتها وأقلعت عن التغير أو التبدل، مع أن وجودها مشحون بمضامين مادية وروحية، فردية ومجتمعية، تلحق ضررا هائلا بمجتمعها، الذي يألف بمرور الوقت التعايش معها والعيش في كنفها.

يقصد الأستاذ يوسف، في أغلب الظن، ذلك النوع السياسي من الطائفية، الذي تنشطه وتحركه سلطة أو دولة تفتقر إلى قاعدة مجتمعية شاملة تتجاوز تكوينات وطنها الجزئية والدنيا، فتقرر الاتكاء عليه وتحديثها، بدمجها فيها واحتوائها في داخلها باعتبارها طائفة / سلطة، أو سلطة /طائفة لا فرق. ويزداد الأمر خطورة إن تم تحديث هذه الطائفة أمنيا وتسليحها ووضعها في مواجهة بقية مجتمعها. عندئذ تكون الطائفية خيانة عظمى بالقول والفعل، وتمثل تنظيما للحرب الأهلية أو للاقتتال والاضطهاد الأهلي والوطني، أثبتت التجارب في كل مكان أن ما ينتجه من أوضاع عامة يكون قابلا للانفجار في أي وقت، لأنه يضع مجتمعه في قلب مشكلات معقدة يديره من خلالها، فهو لا يريد حلها إن استطاع، ولا يستطيع إن أراد، ما دام بحاجة ماسة إليها ، وما دام يرى فيها أداته إلى الضبط والإحكام المجتمعي : في السياسة كما في غيرها من أصعدة وميادين الحياة العامة.

لا شك في أن هذا النمط من الطائفية يجب أن يعد خيانة عظمى. إنه لا يقبل التعايش مع محيطه إلا إذا كان خاضعا له راضخا لإرادته. ولا يتيح للمواطنين التمتع بأي حق من حقوقهم، ولا يسمح لهم بامتلاك أية فسحة خاصة بهم، ويبني وجوده في السلطة على انتفاء وجودهم في السياسة، وثراءه على فقرهم الاقتصادي والاجتماعي، وهو يبيح لنفسه سائر أنماط السلوك التي تضر بهم وتنزل الأذى بأشخاصهم ومصالحهم وعلاقاتهم، وتبطل وجودهم كأفراد / مواطنين في هيئة مجتمعية عامة أو مترابطة، ويسوقهم أكثر فأكثر بعصا الشدة والقمع والحرمان، ويعاملهم كأعداء ينكر حقهم في وطنهم، الذي يعتبره وطنه وحده، ويعامله باعتباره ملكه الخاص ومزرعته الخاصة. لعله من الملاحظ في المجتمعات التي يسود فيها هذا النوع من الطائفية أن مستواها يتدنى بلا توقف، وتعايشها يصير صعبا أكثر فأكثر، إلى أن يبلغ في لحظات معينة درجة الاستحالة، بينما تنهار فيها قيم الأخلاق والإنسانية والوطنية، وتسود قيم ومفاهيم همجية تأتي من عالم التناقضات العدائية بين متحاربين متعادين، أكثر مما تأتي من عالم مواطنين يعيشون بعضهم مع بعض، يبحثون عن المشتركات والقواسم الجامعة ويرفضون الانخراط في خلافات مستعصية أو صراعات متفاقمة، تهددهم جميعهم، بينما يقودهم هذا النمط من الطائفية إلى حال يحملهم فيها مشكلاته ويثقل عليهم بوطأتها، كي تسهل قيادتهم ويهون التحكم فيهم.

هل هناك خيانة عظمى أكثر من تحريض المواطنين ضد بعضهم البعض، ودفعهم إلى أجواء مواجهة داخلية دائمة، وإلغاء ما بينهم من انتماءات عليا وجامعة، ورثوها من التاريخ والقيم الإنسانية العليا، لطالما حلوا في إطارها وبمعونتها ما قد ينشأ بينهم من إشكالات ومتاعب؟. وهل هناك من خيانة عظمى أكثر من تقويض الدولة وتفتيت الشعب وانتهاك الشخصية الإنسانية والقضاء على المواطنة واستغلال القانون ضد مضمونه، وتدمير مصالح الشعب وتجاهل وجوده؟

أخيرا: كان صديقي الراحل المحامي عبد الخالق إلياس يلح على ضرورة تضمين أي دستور بندا يحظر بنص صريح حكم الحزب الواحد. أليس من الحكمة وسداد الرأي تضمين أي دستور ديمقراطي أو حديث بندا يعتبر الطائفية خيانة عظمى، إن هي اتسمت بالصفات التي سبق ذكرها، وتجعل استمرار المجتمع مهددا وصعبا، فلا مفر من جعل وجودها هي محظورا، على أن يتخطى حظرها الدستور ويتأسس في واقع ووعي وعلاقات ومصالح البشر أنفسهم: بقوة الحرية والعدالة والمساواة: القيم التي تنفيها الطائفية التسلطية أو السلطوية، ويجب أن يقتلع تطبيقها جذور الطائفية من الحياة والمجتمع والدولة والسلطة، باعتبارها حقا خيانة عظمى!

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير