خمس (وجبات) فلسطينية مطعمة بالثقافة والتراث والابداع... بقلم: د.حسن عبد الله

14.01.2012 11:28 AM
ما انفك الفلسطينيون يجترحون الجديد في الميدان الثقافي والابداعي، رغم ما يعتري ساحتهم من صعوبات وتحديات، ورغم الضباب الذي يغطي سماء المرحلة، في ظل الانقسام والعراقيل التي تنتصب أمام تنفيذ اتفاق المصالحة، ما يجعلنا نراوح سياسياً في المكان ذاته مربكين مشوشين. ومع ذلك فجديد الفلسطينيين مستمر دفاق في الشعر والقصة القصيرة والبحث الاكاديمي والرواية والرقص بشقيه الفلكلوري والحداثي، وفي المسرح والسينما.

احمد قواريق وفي فيلم اشرف عليه بكل تفاصيله لصالح مؤسسة قيادات. وضمن برنامج القيادات الاجتماعية والسياسية، تمكن ومجموعة من الطلبة الذين انهى معهم دورة تدريبية في مجال الفيديو التشاركي، من انجاز فيلم اختار له اسم "خمس وجبات فلسطينية"، وهي وجبات بمذاق ولمسات ابداعية، متناولاً خمس تجارب ذات ابعاد ودلالات مختلفة، لكن القاسم المشترك بينها الابداع. فقد تنقلت كاميرا الفيلم بين المسرح والحارة. حيث ان المسرح الحي هو نبض للحارة بتناقضاتها وحميميتها، والحارة هي مسرح الحياةالمفتوح على المعلوم والمجهول.

والجزء الأول من الفيلم تناول تجربة الفنان المخضرم عادل الترتير، الذي انحاز للمسرح منذ اربعة عقود، وتعرض لخيبات اقتصادية واجتماعية كثيرة، لكنه ظل يحلم بمسرح فلسطيني قادر على مواكبة تجربة شديدة التنوع والغنى . الترتير يعطي جهداً خاصاً للأطفال من خلال شخصية (ابو العجب)، الشخصية التي جذبت اطفالنا بأسلوبها ونجحت في رسم البسمة على شفاههم، واطلاق العنان لفضول اسئلتهم.

اما التجربة الثانية في الفيلم، فقد تم تخصيصها للفنان مازن ابو لبن، من مخيم الامعري، الذي يواظب على العزف والغناء، ولا يهمه اين يعزف او يغني، سواء في البيت او المقهى او في سهرة اصدقاء، بيد ان المهم بالنسبة اليه، ان تظل نغماته تتدفق في شرايين المخيم.

وحال ابو لبن لا يختف عن شخصية الفيلم الثالثة الزجال محمد نظمي من المزرعة الغربية، الذي يحلق كل يوم في سماء قريته على جناحي قصيدة زجلية، يمد جسرا فنيا بين الواقع والحلم.
ويحملنا القواريق وفريقه الشاب من خلال كاميرا ذكية، من الزرعة الغربية الى جمعية اللد الخيرية في البيرة، لنستمتع بمشاهدة دبكة شعبية فلسطينية، يؤديها فريق من الشباب والفتيات، يدرك ان رؤية التراث بعيون الحاضر، تجديد للدماء في عروق الموروث، ما يجعله قادراً على الحياة والاستمرار، في عصر انفتاح افق الفضاء، في ظل تكنولوجيا لا حدود لها.
وفي رأيي فإن رصد لعبة الحجلة في احدى حارات مخيم الامعري قد شكل حلقة الفيلم الأكثر حيوية. فالحجلة حاضرة في الامعري، مع ان لا بيت فيه يخلو من لاقط يجعل القنوات الفضائية في متناول الجميع. فالمخيم رغم الفقر واللجوء لا يعيش على هامش الحياة، بل ينبض فيها ومعها.

البنات الصغيرات في المخيم يتمتعن بالحجلة، بعد ان رسمن خطوط اللعبة على ارض شققتها الحركة المكثفة لاقدام تتحرك في مساحة صغيرة محدودة، وكأن الفتيات قد ضقن ذرعاً بجدران اكواخ وكالة الغوث، وقررن الانطلاق في رحاب المخيم ليجدن ان العيون تصطدم مجدداً بجدران تصطف في كل الاتجاهات. لكنهن ينجحن في انتزاع المتعة من انياب بؤس الفقر، يحجلن، يندمجن، يوطدن صداقتهن مع كل قفزة.

ستذهب كل منهن في طريقها يوماً. وقد تبقى واحدة في المخيم، وربما تغادره ثانية الى المدينة، أو تسافر ثالثة الى بلاد ابعد من وطن محاصر، بيد ان الحجلة ستظل خطوطها ومربعاتها مرسومة في رحاب ذكريات جميلة لا تنسى.

القواريق اراد ان يؤكد من خلال الالتحام بأرض المخيم، ان القلم الذي يتعفر بتراب الميدان هو الاكثر صدقاً وتعبيراً ، والاكثر قدرة على الاستماع الى حديث لا ينقطع بين ذرات التراب ، في حواري لم يغط البلاط او الاسمنت ارضها بعد. كما ان الكاميرا التي "تقيم" في الاستوديو نظيفة، مزهوة "بماركتها"، ستعاني من البرد الشديد، لأن الدفأ الحقيقي، لا يستمد الا من الميدان.

وأخيراً ان اهم ما في هذا العمل، ان المشرف العام على الفيلم لا يطرح نفسه مخرجاً او خبيراً بشؤون السينما، بل يصر على انه انسان خبير في التقاط صور الميدان، واعادة تشكيلها لتكون بطعم الناس ولونهم وبرائحة عرقهم ومذاق حلمهم.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير