النكبة: خليل خلف الله من الغابسية يروي تفاصيل الجريمة ويصر على العودة

15.05.2014 09:07 AM

الناصرة - وطنبين كفر ياسيف والكابري بالجليل الغربي مسافة فاصلة لا تتجاوز السبعة كيلومترات، تتوسط طريقهما بلدة الغابسية المهجرة، ويمر بينهما طريق طويل بطول الانتظار ومكابدة الصبار، وتحيطها عدد من القرى المهجرة وقرية الشيخ دنون العامرة بأهلها وبأعداد المهجرين الذي يقارب نصف سكان البلدة. طريق مليء بمر الذكريات،  وتحكي محطات من الوجع و التشريد والتهويد، ومرارة وحسرة لا تغيب لحظة عن أهلها.

في الطريق من دنون إلى الغابسية، رافقنا خليل خلف الله وقد شارف على الثمانين من العمر و حفرت سنين الأسى على وجنتيه تجاعيد بعمر التهجير ومرارة الانتظار، لكنه لا يؤمن بدوام ظلم وظالم.

بعد مسافة كيلومترين من سكنه بالشيخ دنون انعطفنا يمينًا في طريق ترابي باتجاه الغابسية التي تقع على رابية، وعلى مدخل البلدة من جانبي الطريق تنتصب شواهد النكبة بملامح أهلها وينتصب الصبار على هوامش الطريق تتوسطها أشجار اللوز وأخرى من والشواهد الصامتة التي أبت الاقتلاع، وقبور الأطفال التي تنتظر أهلها على يمين الطريق بعد أن فارقها أهلها 66 عامًا دون خبر.

وفي مركز البلدة لا زال ينتصب المسجد وينتظر مصليه، ورغم صمت المعابد ينتابك لحظات من الخشوع، ولك أن تسمع همس الابتهالات وتهاليل الفجر تحكي الطمأنينة والسكينة قبل فظائع النكبة وحكاياتها النازفة.

أبو غازي، خليل خلف الله (78 عامًا)، اصطحبنا إلى بيت المسن حيث يقيم في الشيخ دنون، فوجدنا هناك عدداَ من اللوحات التي أبدعتها ريشته بألوان النكبة وخياله بذاكرة حية لم تصب بشرخ رغم صغر سنه آنذاك.  وكأنك داخل معرض للفن التشكيلي الذي يروي حكاية شعب ويجسد صورة الوطن ما قبل النكبة.

توقف أبو غازي عند احدى اللوحات الفنية وأخذ يشير إلى كل زاوية و بصمة ولمسة على لوحاته ليعرفنا على عائلات وبيوت أهالي بلدته قبل العام 48، ولأشار بأصبعه وكأنه يقرع الأبواب، ويستأذن الدخول ويشرح لنا، هذا بيت علي الشما وهذا بيت محمود العلي وذاك لدرويش المقدح وهذا لموسى مساغة .

البلد كانت عامرة بالنعيم وكانت قطعة من الجنة...

سرد لنا أبو غازي بمزيج من الحزن والأمل الكثير عن بلده،  وقال: كان عدد السكان عام 1948 نحو 750 نسمة تمتلك من الأرض نحو 7500 دونمًا أي عشرة دونمات للفرد من الأرض الخصبة تغمرها بساتين الفواكه والحمضيات والكثير من الأراضي الخضراء، كمراعي للمواشي.

وأضاف أبو غازي: الغابسية كانت بلدة عامرة وفيها مدرسة ملاصقة للجامع كنت أدرس بها، وثلاث دكاكين وثلاث ملاحم ومعصرة للزيت ومخبز متطور نسبيًا، وننعم بالخيرات والاطمئنان والأمان ولم يكن احداً منا يتخيل في أسوأ أحلامه ما حل بنا بليلة وضحاها من الترهيب والرعب والقتل والتهجير، دون أن تقترف أي ذنب.

ويتابع: كنت أسمع من الكبار عن مناوشات يقوم بها اليهود قبل اقتحام القرى والمدن ويقومون بزرع الألغام الأرضية، وأذكر أن انفجر لغم بالشهيد صالح بديعة من قرية النهر المجاورة وهو في طريقه على دراجة هوائية إلى عكا، وكذلك الشهيد صالح بدر من قرية الشيخ داهود المجاورة.

أول الشهداء والخروج المؤقت على أمل العودة...

يواصل أبو غازي سرد التفاصيل بكل جوارحه ويتفاعل مع حكاية العدوان وكأنه حدث بالأمس القريب، وقال: في فجر 21-5-1948 والناس نيام استيقظوا على أصوات الرصاص بالجهة الشمالية من البلدة، وعلموا أن اليهود يقتحمون البلدة بهدف احتلالها.

وتابع: في ذلك الفجر طلب الوجهاء من"داهود الزيني" اعتلاء سطح المسجد ورفع الراية البيضاء، كان ذلك يعني عدم اقتراب طرف من الآخر، إلا أنهم اطلقوا النار على الزيني ليكون أول شهيد بالغابسية، واخذوا بمداهمة البلدة واطلاق النار على كل ما يتحرك مما آثار الرعب وهلع الناس، وأذكر أنهم قاموا بايقاظنا من النوم وحمل ما تيسر من الفراش وبعض الأشياء البسيطة، وذلك بعد أن سقط 13 شهيدًا، أذكر منهم الآن محمد حسين حماد وأسعد أبو شيخة، وأذكر أيضًا قتل خليل الطملاوي من قرية النهر وكان يعمل جمالاً، حيث كان بضيافة أسعد المحمود الذي كان يسكن على الطرف الغربي الشمالي من الغابسية، كما علمت أنهم قتلوه بعد أن شربوا اليهود القهوة سويًا، وبعدها قادوا أسعد المحمود ومعه ثلاثة آخرين إلى جهة مجهولة، ولم نعد بعدها نعرف أي شيء عنهم، إلا أنه من الواضح أنهم قاموا بتصفيتهم.

قتل شهينة داهود وموت وفية الدايم وفقدان رضيعها…

وتابع أبو غازي في سرد جريمة أخرى، وقال: العصبات الصهيوينية دخلت البلدة  وعاثت بها قتلاً وخرابًا وارهابًا. ويستذكر قصة الصبية الجميلة "وفية الدايم"، التي توفيت قهراً وسط القرية لدى سماعها أن العصابات الصهيوينية اقتحمت القرية.

وروى أبو غازي: أثناء دخول الصبية "وفية الدايم" على مسنتين جلستا بالدكان بجانب الجامع في وسط القرية، وهي صبية كانت معروفة بجمالها ومتزوجة حديثًا، وفي حضنها رضيع، وعندما علمت أن "جيش اليهود" يقترب من المكان سقطت على الأرض وتوفيت قهرًا أو خوفًا أو الاثنين معًا، أما الرضيع فهناك رواية تتناقل حتى اليوم بأن اليهود لأخذوه وهودوه.

وأضاف أبز غازي: أما الشهيدة شهينة داهود فقاموا بقتلها بدم بارد، وجدتي فاطمة السيتي فقتلت بطريقة مشابهة، فعندما عدنا للبيت وجدناها جثة وقد قتلت برصاص اليهود. وتابع: مثلنا مثل معظم القرى تركنا البلدة من هول القتل والترهيب آملا بالعودة، حيث كانت البلدة مطوقة من جميع الجهات، إلا الجهة الشرقية ويبدو أن ذلك كان مقصودا لحملنا على الهرب شرقًا وهكذا فعلنا، حيث تجمعت أعداد كبيرة من النازحين في قرية يركا حيث انتشرنا بكروم الزيتون مدة 4 شهور، إلا إننا علمنا لاحقًا أن اليهود سيطروا على البلدة وليس بإمكاننا العودة. انتقلنا بعدها وسكنا بمدرسة كفر ياسيف وبعد مفاوضات قام بها الشيخ رباح عدنا مع البعض إلى بيوتنا وبقينا لغاية 1950، إلا أنهم طالبونا -إسرائيل- مرة أخرى بالخروج من البلدة والعودة بعد فترة، إلاغاننا حتى اليوم لم نعد .

داوود بدر هو الآخر عايش الحكاية نفسها، وروى لعرب ٤٨ تفاصيل المأساة التي كان شاهداً عليها، وقال: أختي وأخي هجروا إلى لبنان حيث نزحوا بداية من الغابسية إلى دير القاسي على الحدود اللبنانية والمحاذية لبلدة فسوطة، وفي 30- 10-1948 وبعد احتلال دير القاسي لجؤوا هم ومن معهم إلى لبنان حيث انقطعت أخبارهم عنا.

وتابع: كنت حينها مع والدي بدير القاسي لكن والدتي بقيت في يركا، وعندما عاد والدي لجلبها معنا إلى لبنان رفضت ذلك واشترطت عليه اذا كان مصراً اللجوء إلى لبنان أن يبقى الصغير داوود، 6 سنوات حينها، معها وبذلك منعته من النزوح إلى لبنان، وبعدها عدنا ضمن الاتفاق إلى بيت خالي مصطفى حجازي بالغابسية لغاية 1950، إلا أن الشرطة العسكرية طالبتنا باخلاء البلدة لاستخدامها منطقة عسكرية وانتقلنا بعدها إلى قرية الشيخ دنون المجاورة، ولا زلنا نعيش هنا على آمل العودة.

وأضاف بدر: لقد تواصلت مع أختي التي لم أكن أعرفها في لبنان تلفونيًا، لكن أخي أحمد توفي عام 2004 دون أن نلتقي، أما أبناء عمومتي فقد تعرفت عليهم هذا الأسبوع بقوة الصدفة بواسطة مواقع التواصل الاجتماعي، وهذه مواقف مؤلمة وقاسية ومرة ،وربما هذه عينة لآلاف الحكايات، بل حكاية شعب بأكمله، لكن سنبقى نحمل رسالة من جيل إلى جيل من لأجل حقنا المشروع بالعودة لقرانا واستعادة أملاكنا.

 

(نقلًا عن موقع عرب ٤٨- كتب: توفيق عبد الفتاح)

تصميم وتطوير