صدأ اعلامي...بقلم: خيري منصور
09.01.2012 09:48 AM
ولم يعد بإمكان أحد أن يردد ما قاله ابن مقبل، وهو ما أطيب العيش لو أن الفتى حجرٌ، فالحجر أيضاً تغيرت وظيفته وأصابته عوامل التاريخ والتعرية فلم يعد وثناً صامتاً أو شاهدة قبر، بل أصبح سلاحاً في قبضة طفل أعزل إلا منه .
الشيء الوحيد الذي صمد أمام عوامل التحوّل بسبب ما تراكم عليه من صدأ، وإبطال مفاعيل وإذعان لتقاليد بائسة، هو الإعلام في بعض الدول التي تعرض بضاعة ونقوداً قادمة من الكهوف، فالتاريخ لم ينهِ صلاحيتها فقط، بل حولها إلى مقتنيات أخرى متحجّرة كالأسماك التي قذفها مد البحر بعيداً عن الشاطئ ونسيها هناك في حالة الجزر .
والإعلام الذي يظن القائمون عليه بل الذين قعدوا تحت مقاعده، بأنه صالح لكل أوان، لا يزيد عدد مفردات معجمه عن علبة كبريت مستعملة وغير قابلة للاشتعال، ولا يشارك هؤلاء الذين توقفوا عن النمو عند خمسينات وستينات القرن الماضي في فلسفتهم غير النعامة، فهي مثلهم تغرز رأسها في التراب تاركة جسدها كله هدفاً للسهام أو أي سلاح آخر . ولو أخذنا عينات من هذا الصدأ الإعلامي وحلّلناها أو وضعناها تحت المجهر السيكولوجي، لوجدنا أنها قد تعفنت بالفعل لأنه ما من ثلاجة أو جهاز تبريد لهذا النمط من النشاط البشري . وما يضاعف من الأسى أن بعض المشتغلين في هذه الكوميديا وليس الميديا يدركون ما هم عليه، لكن متطلبات الحياة وإدمان الكسل وفرط التأقلم السلبي، يدفعهم إلى الامتثال والصمت، وإن كنا نعرف جيداً ما الذي يهمسون به لبعضهم بعد الفراغ من وجبة إعلامية من هذا الطراز .
والرائج والأكثر تداولاً في هذا الإعلام هو استخدام معلبات كلامية منقّعة في الهجاء السياسي، رغم أن مدة هذه المعلبات انتهت منذ زمن طويل، وثمة تحذيرات صحية من استخدامها لأنها ملأى بالصدأ والسموم . هذا النمط من الإعلام الذي يسمى الاستنقاعَ استقراراً، والتحجّر صموداً وصلابة، لا يصحو من غيبوبته إلا بعد فوات الأوان .
وهناك عيّنة باتت أمثولة من هذا الإعلام هي مذيعة شهرت مسدساً في نشرة الأخبار، ولم يخطر ببالها أن ما شهرته لم يكن في وجه من تتخيل أنهم خصومها بل في وجوه المشاهدين جميعاً أينما وحيثما كانوا، أما الخاتمة فلم تكن مسكاً على الإطلاق، والنهاية كما يعرف الجميع لم تكن سعيدة .
والحاضنات الأولى والمرجعيات لهذا النمط من الإعلام هي من إفراز نظم شمولية وفقه يبشر بعبادة الفرد، بدءاً من التجربة الستالينية حتى آخر نموذج مسخ يحاكيها .
ونستغرب أن من يصدّقون نظرية غوبلز الشهيرة وهي الاستمرار في الكذب حتى التصديق، لم يعرفوا بعد أو لم يصلهم النبأ بأن شعوب العالم حتى تلك الأقل حظاً في الثقافة والوعي قد بلغت سن الرشد، وأن الاستخفاف بالعقل والذاكرة وأحياناً بالخيال له نتيجة واحدة محتّمة، هي الندم بعد فوات الأوان بحيث لا يعود الاستدراك ممكناً .
ولهذا الإعلام المغمور بالصدأ ثلاثة رهانات، الأول على جهل المتلقي أو سذاجته، والثاني على القوة كبديل للمنطق والإقناع، والثالث موت الحمار كما في الحكاية التراثية المعروفة، أو كما ورد في قصيدة ساخرة للفرنسي “جاك بريفير” .
فهل أزف الوقت للتفريق بين الصمود والتحجّر، وبين المهد واللحد، وأخيراً بين الإعلام وإعدام الوعي؟
عن جريدة الخليج
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء