عند بائع القهوة - بقلم:فراس نصار
يتراكم الناس عند عجلات عربته المزركشة كل صباح، أخياراً وأشرار، يتزاحمون كأن الدنيا أعلنت نفاذ الوقت، وبأنها ساعات العمل الأخيرة لمن يرجو فوزاً أو نجاح، فتراهم في طقوسِ ما قبل الرشفة الأولى من حبات قهوته شبه نيام، يتبادلون التحيات بغفلةٍ وكأنهم إستفاقوا كأصحاب الكهف لا يدركون ما قد غاب من أعمارهم في أحضان الزمان، يتناوبون الوقوف في وجه بدايات النهار مُلقين على مسامع بعضهم مُختصر الكلام .... يسترقون الأدوار حتى من أنفسهم ليتذوقوا نشوة إنبعاث الروح في أجسادهم بعد السُقام، أحدهم مفككة أزرار قميصه وآخرٌ يَضيع في الزحام، أعمارهم متفاوتة فقد جمع بينهم نهار جديد وقليل من الأحلام، منهم من ينظر الى ماضيه بلهفةٍ وفيهم من يكره الانتظام، فيسطو على أدوار الواقفين جميعهم ويدَّعي قواعد السلام، فنجان قهوته برائحة التسلط والتجبر ويلقي موعظة الصباح عن الإحترام، وآخرٌ ينتظر فنجانه وهو يسترق النظر في حركات لولبيةٍ من حاجبيه وقد غابت العينان، فعصاه تقوده كأنها ... وأشعة الإبصار يلتقيان !! وفي دقائق معدودة يناقشون أوضاع البلاد .. فترى الحروف تخرج من افواههم بإنسجام، فإن قادتك أرجلك الى إجتماعهم الصباحي قرب العربة أيقنت بأنهم أناس عظام، يضعون حلولاً سريعة لمجمل قضايا البلد الجِسام ...
هم من عامة الناس فأحدهم سائق (التاكسي) ولآخر صاحب (بسطة) والثالث يعمل منذ سنين موظفاً في محل بيع الملابس ورابعهم يسكن بالجوار... يعمل حارساً شخصياً لدى احد القامات الكبار !! وخامسهم يعمل في دائرة حكومية منذ عشرات السنين تراه لبرهةٍ يتلفت حوله قبل أن يبدأ الحوار ! وسادسهم يرتدي عن حبل غسيله اجمل ملابسه حاملاً تحت إبطه شهادته الجامعية وقد إكتست بالغبار، فهو يبحث عن عملٍ كريم له ولا يرتضي مغادرة الديار، فأمه طريحة الفراش وأباه الآن (ختيار)، وسابعهم عامل البناء يتصعد كل يومٍ ليعتلي جديد البناية من أدوار، فيحرص على شرب قهوته...... فعمله ملبدُ بالإخطار..
أما ثامنهم فهو - أنت - تقف متلهفاً تستمع لما تجود به جلستهم من أعظم الأفكار، فلديهم من النياهة والعبقرية ما يعجز عنه اصحاب القرار، حلولهم ومناقشاتهم في دقتها تحصُرك .. فلا تجد لنفسك متسعاً سوى الإقرار !!! لان منطق عرضهم فيه من الرصانة وحسن التفكير .. ما ينساه عند وضع السياسات والتعليمات وزير !! لوهلةٍ تغيب عن الحضور وأنت تلتقف فنجان قهوتك وتبدأ بالتفكير .... متسائلاً لماذا ليس من هذه البقعة الصغيرة يتم صناعة الوزير ؟؟
وصاحب العربة منهمكا بإضافة المنكهات الى قهوته على أنغام كلامهم فيجمع في ابريقه ما أنزل الله من أَطعام، حتى تراه يسكب منه للمنتظرين بقربه خليطاً من البن مع الابتسام، وكأن ابتسامته تُضفي على كل فنجان الطعم المثالي لشاربه رغم تنوع أذواقهم ، ثم يبدأون جميعهم مغادرة المكان تراهم يمضون بالشارع بين الزحام .
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء