في حقول الفلاندرز (1 مقبرة الجنود الأمريكان ..عاطف سعد

10.04.2014 11:19 AM

يحتفي العالم الغربي هذه الأيام بالذكرى المئوية لاندلاع الحرب العالمية الأولى (1914-1918).  وكان الرئيس  الأميركي أوباما أول رئيس غربي يستذكر الذكرى فيزور المقبرة العسكرية الأمريكية في مدينة واريغيم  Waregem البلجيكية  لتكريم الجنود  الأمريكان الذي سقطوا في تلك الحرب. وتَصادَفَ أني كنت في زيارة، بعد يومين، لنفس المدينة، لمتابعة مشروع كتاب يؤلفه الصديق البلجيكي ليفين فاندهوت عن فلسطين. وبعد وصولي، اصطحبني ليفين بسيارته من بروكسل لمدينته الجميلة واريغيم .

في حقول الفلاندرز حيث تقع المقبرة ، بدت السماء زرقاء صافية إلا من بعض غيوم تحركها ريح خفيفة سرعان ما تتبدد بفعل أشعة الشمس التي نثرت ضيائها على الأرض المنبسطة  المكسوة بالعشب الأخضر والمحاطة بأشجار باسقة ومشذبه بعناية. بث المشهد الطبيعي اللطيف والمشمس دفئا في أطراف جسمي مما زاد من بهجتي ومتعتي.  ويبدو أن صديقي استشعر ارتياحي فقال مازحا،" ليس من الطبيعي أن تكون الشمس عندنا بهذا السطوع وهذا الدفء في أواخر آذار. لقد جلبت  لنا شمسا  صيفية من صيفكم الطويل في الشرق الأوسط".

  سألته ،" أين نحن الآن؟"   رد بلهجة رصينة ، " أنت الآن في سهول الفلاندرز البلجيكية، أكبر وأشهر الحقول في أوروبا والغرب كله. هنا يوجد قلب الغرب المكلوم وذكرياته الأليمة. هنا توجد أكبر المقابر العسكرية في أوروبا والعالم التي ووري فيها 425 ألف من الجنود البلجيك والألمان والفرنسيين والبريطانيين والروس والأمريكان الذي سقطوا على أرض بلجيكا.  على بعد أمتار من هنا توجد مقبرة الجنود الأمريكان التي زارها الرئيس الأمريكي، هل ترغب بإلقاء نظرة على المقبرة قبل وصولنا للبيت؟".

تداعى لذهني ما قاله بطل رواية "القوس والفراشة" للروائي المغربي محمد الأشعري، عن أسرار المدن، " كل شيء يبدأ من المدافن وينتهي إليها.  لا تُفهم مدينة بشكل جيد إلا من مقابرها."

رحبت بفكرة  صديقي وقلت  ولم لا المدافن العسكرية مفتاح لفهم ما تفعله الحرب بالمدن والجغرافيا والناس. خلال دقائق توقفت السيارة أمام مدخل المقبرة العسكرية الأمريكية ، وهي قطعا  لن تبدو كذلك لمن ليس لديه فكرة مسبقة عن المكان ورمزيته.  بدت المقبرة مثل متنزه كبير أو متحف مفتوح على السماء والأرض. الأشجار الباسقة تُحيط بالمكان وفي نقطة المنتصف، ينتصب، بشموخ، ضريح عال مبني من الرخام مكتوب على جانبيه عبارة كتبت بخط ذهبي باللغتين الإنجليزية والفلمنكية تقول،" هذه القبور رموز دائمة ومرئية للجنود الأبطال الذي قدموا حياتهم للقضية الإنسانية العامة !" في داخل المقبرة، اصطفت القبور على بساط أخضر ناعم ونظيف. ويفصل بين كل قبر وآخر متران تقريبا. كما تميزت قبور  الجنود الأمريكان من معتنقي الديانة اليهودية بشواهد تدل على ديانتهم: نجمة داود سداسية الأضلاع. على كل قبر  توجد لوحة صغيرة  سجل عليها تفاصيل عن المدفون (أو المدفونين) في القبر: اسمه، عائلته، رتبته العسكرية، مكان مولده، تاريخ وفاته ومكانها. سرت بين القبور، وبجانبي صديقي ليفين،  وأنا أتأمل في مفاهيم  الحياة والموت. قلت في نفسي الحياة مقدسة ولكن يُمكن إظهار القداسة للموت بتكريم من ماتوا واحترام شرفهم العسكري والإنساني  بغض النظر عن الأسباب.

في المقالة التالية أكتب عن مشاهداتي وانطباعاتي بعد زيارة  مدينة فلادسلو حيث توجد مقبرة الجنود الألمان أو الجنود الأعداء  بنظر الغرب وكيف تعامل مع موتهم.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير