الدخول في التيه - بقلم: د.عدوان نمر عدوان
الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه سدد للإنسان الحديث ضربة عندما أعلن موت الله ، فبإعلانه عن موت الله ظهر أن الإنسان وحيد في هذا العالم ، وأن عليه تأكيد ذاته ، وهو بهذا رفض القيم العليا من أجل وحدة القيم والنظام والفكر والحياة ، فكل إنسان أصبح يواجه القدر "الدون كيشوتي" الذي يحسب طواحين الهواء عمالقة ، إذا الإعلان عن موت الله يعني أن الغلاف الأسطوري والمثالي من الإغريق مرورا بالأديان والميتافيزيقيا قد نزع ، وأصبح المعنى لفيزيقيا الأشياء –وبالتالي- النص ، فلا شيء يسبقه أو يتعالى عليه.
العالم "كوبر نيكوس" سدد كذلك ضربة للإنسان عندما أعلن رفض نظرية "بطليموس" التي تقول بأن السماء تدور حول الأرض ، وأعلن بأن الأرض هي التي تدور حول الشمس ، وبذا يكون الإنسان وكوكبه مجرد محض نقطة لا متناهية الصغر وعديم الشأن في بحر المجرات ، مما أفقد المركزية الأرضية للإنسان وللكنيسة والبابا الذي كان يعتبر سلطته سلطة فوقية مركزية.
داروين سبق وأن سدد ضربة للإنسان عندما نقد التاريخ التوراتي الذي لا يتجاوز ٦٠٠٠ عام ، ووضح التاريخ الكبير لملحمة الحياة المتوحشة التي لا يمثل فيها مليونا سنة من التاريخ سوى فاصل عابر من عملية انتشار الحياة على كوكبنا ، ولا تمثل الحياة سوى فاصل عابر من عملية تكوين كوكبنا ، فإذا كانت الحياة تمثل ب(٢٤)ساعة فإن الإنسان خلق في آخر ربع ساعة فيها.
فرويد كذلك وجه ضربة للإنسان في وعيه فالإنسان العقلاني والأخلاقي مجرد وهم ؛ لأن الذات محكومة بمفردات البنية اللاواعية.
شخصيا اعتبر أن أكثر الضربات التي انصبت على الإنسان هولا- كانت في التكنولوجيا الحديثة التي دخلت إلى أقصى خصوصيات الإنسان وتحكمت بدواخله وبكل ما يحيط به ، فإذا كان الإنسان قد فقد إلهه ومن يفقد إلهه يفقد نفسه ، وفقد تميزه في أنه مركز الكون ، وفقد تميزه في استعلائه على المخلوقات فهو قرد متطور، وفقد وعيه كما قال فرويد ، وفقد خصوصيته وحريته جراء التكنولوجيا ، فما الفائدة من فلسفة الإنسان ومن كينونته؟ لذا بات واضحا أن الإنسان من الجانب الفلسفي ينبغي أن يموت وأن تظهر فلسفة بنيوية بلا ذات تكون بنية الأشياء هي المحرك الأساسي فيها ، ومن هنا أعلن ميشيل فوكو موت الإنسان وأحل البنية ، واستنبط ماركس البنية التحتية في الاقتصاد ، وصارت الدراسات اللسانية والنقدية تبحث عن النسق لا سيما الدراسات اللغوية كما فعل دوساسير الذي عدّ اللغة مؤسسة اجتماعية ، ورولان بارت الذي اعتبر اللغة سلطة تشريعية اللسان قانونها ، وكذلك ميشيل فوكو الذي وضح البنية المؤسساتية للسلطة والمركز والعقل في مقابل الهامش والجنون ، ويحسن المقام أن نورد مقولة فوكو التي تقول بأن الحقيقة لا تعرف ولا تقال إلا في ظل استراتيجيات السلطة وتلاعبها في الأمور ؛ أي استراتيجيات النسق والبنية في نهاية المطاف وليس الفرد .
كل ذلك أدى لانبثاق البنيوية ، فظهر النسق ومات الإنسان ، مات الوعي وظهر النسق غير الواعي الذي يقاس عليه كما هو عند شتراوس فمن الممكن إيجاد العلاقات البنيوية في الأساطير التي تكشف بدورها عن الفكر غير الواعي الموجود عند الشعوب من جهة ، وتكشف البنية النسقية في اللغة الجمعية من جهة أخرى ، فاللغة مكتملة في عقول المجموعة وليست موجودة عند المتكلم الفرد بصورة مطلقة فوجودها الكامل فقط داخل النسق . إذا هوجم الإنسان وصارت اللغة منتجة بدلا من كونها حاملة ، وقلبت المعادلة من إنسان إلى نسق ، وأمست الحاجة بعد ذلك أدعى إلى إحياء النصية ، فظهرت قواعد البنيوية وعلى رأسها موت المؤلف الذي ليس سوى تمثال صغير في ركن الغرفة ، فقوانين النص هي الصانعة والمنتجة ولا شيء سابق عليها .
شخصيا أرى أن هذا هو فن حسن التغليف لمواد فلسفية وأفكار سابقة ، فكيف يكون ذلك؟
هيجل فارس المثالية كان يعتقد أن الحياة كالساعة تحرك من قوة خارجية "الله أو ألوهيم" فالله هو الذي يقوم بتعبئتها خارجيا وبمعنى آخر هو صانع الحياة أو النص ، عندما جاء الماركسيون رأوا أن الطبيعة في وحدة أضدادها وتناقضها تقوم على تحريك نفسها ؛ ولذا رفضوا الخالق الخارجي ، وأعطوا الدور للطبيعة محركا داخليا ، فكفرت الماركسية بالذات وعدّت الإنسان سنا في ترس كبير، وصبت سهامها على الملكية الفردية والذاتية ، لو قلبنا المعادلة على النص فإن موت الخالق عند الماركسيين يعني موت المؤلف عند البنيويين ، وإعطاء الطبيعة ببنيتها القائمة على التناقض والثنائيات الدور الأكبر في الإنتاجية - ما هو إلا إعطاء النسق النصي الدور الريادي ، وتغيب دور الإنسان لصالح نسق المجتمع ما هو إلا تغليب للغة على المنطوق الفردي .
لقد غيرت البنيوية من مفهوم نظرية الأدب فلم يعد الأدب نظرية في الحياة إنما أصبح نظرية في ظواهر الإبداع ، وأكسبت التحليل بعدا علميا دقيقا بعدما أهمل وحول إلى مجرد وثيقة تاريخية ، وأصبح النقد علما له مصطلحاته المتفردة والمستقلة بذاتها.
لكن كما تموت كل الأشياء بسبب الإيغال أو بسبب أن كل فكرة تحمل في رحمها بذور فنائها ماتت البنيوية (مجازيا على الأقل) بسبب الأمرين ، فعندما عزلت الأدب عما يحيط به صار النقد يقطن جزيرة مستقلة ويعتاش على مصطلحات طلاسمية لا يفهمها إلا البنيويون ، أما الإغراق في العلمية فأضاع الروح الأدبية وأضحت دراسة النصوص التاريخية والفلسفية والسياسية تقاس بنفس المقاييس الأدبية ، وهذا ما قتل روح الأدب وجعله مجرد لغة فعلى سبيل المثال هل التمثال مجرد حجر؟ وهل الإنسان كتلة من اللحم والعظم والدم ؟ وهل اللوحة مجرد خطوط وألوان؟
البنيويون لم يهتموا بمفهوم القيمة في العمل الأدبي ، فهم كالمشرح الذي له أدوات محددة ويقوم بتشريح ووصف الجثث دون اهتمام بقيمة الشخص سواء أكان نبيا أم شيطانا ، أوهم كالواصف الذي يصف مكانا دون الانتباه إلى قيمته إن كان خمارة أو معبدا أو مكانا نائيا متروكا.
أخيرا جاءت التفكيكية التي خرجت من رحم البنيوية وهجمت هجوما كاسحا على أفكار البنيوية ، وممثل هذا الاتجاه اليهودي جاك دريدا المولود في الجزائر ، فالبنيوية التي قالت بالنسق تعرضت لتشكيك دريدا فلا يوجد نسق واحد إنما ثمة أنساق متعددة وغير نهائية ، وإذا كانت الأنساق غير نهائية إذا فالمباني مجرة من الدلالات اللانهائية وخير مثال على ذلك قشور رأس البصل التي توصل إلى الفراغ وانتفاء المعنى قشرة في داخل قشرة حتى اللامبنى واللامعنى ، كما أن النص نفسه متعدد الطبقات وكل طبقة تكشف عن طبقة سابقة فلا وجود للأصل أو للبكارة الأولى ، والنص مجرد أثر من آثار سابقة وأثره سيكون في اللاحق ، ومثاله الليث فما الليث إلا مجموعة خراف مهضومة كما قال فاليري ، وما النص إلا قطع فسيفساء ، وإذا كان البنيوي يهدف إلى إنارة النص باكتشاف بنية واحدة يقاس عليها بشكل معياري فإن التفكيكي يهدف إلى تعمية النص باللامعنى وباللعب به كما يلعب الطفل بالليجو في عملية هدم وتركيب لانهائية ، وفي أشد اللحظات لعبا وعماء تتكشف بصيرة التفكيك ويبدأ لعبه ، كما وعدّ دريدا النسق تمثيلا لحالة ثابت ميتافيزيقي ينبغي هدمه إذ افترض أن الحضارة قامت على ثنائيات تناقضية أو توترية من مثل ذكر وأنثى ، خير وشر ، العقل والعاطفة... فالمعنى يكتسب الشيء بضده لا بنفسه( تتبين الأشياء بضدها) ، ورأى دريدا أن الحضارة الغربية أعلت من الأول على حساب الثاني فينبغي الهجوم على الضد الأول وتفكيكه وتبيان ضعفه وعدم صموده لا لإحياء المقابل كإحياء الأنوثة ضد الرجولة بل لتدمير الثابت الميتافيزيقي ، ولو تبوّأت الأنوثة المركزية فينبغي الهجوم عليها وتفتيتها .
ثم هاجم دريدا الصوت في مقابل الكتابة ؛ لأن الصوت ترافق في الحضارة الغربية مع الحضور الشخصي المرتكز على انتفاء التأويل وأعلى من الكتابة ؛ لأن فيها القدرة على تفعيل المعنى وكأنها انفلات من عقال سلطة الحضور فالسلطة مولعة بالمنطوق على حساب المكتوب. (سلطة العقل وسلطة الكاهن ، وكلمة الله المنطوقة) ، ورفض كذلك دريدا أن تكون الكتابة ممثلة للمفهوم الذي تمثله الكلمة أو الصورة الصوتية ؛ فالكتابة دال الدال فإذا أردت استحضار مفهوم ( زهرة) فينبغي نطق صوت زهرة لكن حين تكتب كلمة زهرة فإنك تمثلها بالكتابة ولا ترتبط هذه الصورة الكتابية بأية صله بالمفهوم ؛ لذا كانت الصورة الكتابية ثانوية مهملة في حين أن المنطوق الصوتي لاهوتي ميتافيزيقي ، وطالب دريدا بالتمركز حول الكتابة عوضا عما هو موجود عند الغربيين من التمركز حول الصوت ، وهذا الشيء خطير من الناحية الفلسفية ، فإذا مثل الأمر قياسيا بالروح والجسد ؛ فإن التمركز حول الصوت هو التمركز حول الروح ؛ أي حول الأخلاق واللاهوتيات، والتمركز حول الكتابة هو تمركز حول الجسد ، إذا في الأمر رفض لما هو أخلاقي ، إنه الانغماس في الحياة الدنيوية إنه محاربة لما هو روحي وإلهي ، ومن هنا يخطئ من يظن أن التفكيكية عدمية بل إنها آثمة مع سبق الإصرار والترصد.
ومن جهة أخرى حشر دريدا اللسانيات والميتافيزيقيا في خانة واحدة فلسانيات دوساسير والبنيوية عندما آمنت بالنسق فإنها آمنت بوجود سلطة عليا في رأيه متمركزة في اللوغوس الميتافيزيقي وهي بذلك تعيد المفاهيم القديمة وهذا ما رفضه دريدا ، فمصطلحات دوساسير التي يقال إنها أحدثت ثورة في نظره هي نتاج آخر للميتافيزيقا ، فنحن نكرر أنفسنا حينما نقول: إن نسق اللغة الجديد علمي فهو ميتافيزيقي ؛ لأن الذهن غير محايد فدوساسير وقع ضحية الميتافيزيقيات .
دوساسير رأى أن العلامة هي دال + المدلول ؛ أي عملية اتحاد ، أما دريدا فيرى العلامة اختلاف وإرجاء فهي مختلفة المعاني وناقصة وافية لا سيما إذا كانت في السياق ترزح تحت الشطب ، فلا توجد علامة لشيء أزلي إنما العلامة متغيرة في السياق خالقة لسراب المدلول ، فالعلامة مجرد أثر حاضر ومغيب في الوقت نفسه وليست تمثيلا لشيء محسوس .
في نهاية المطاف ما مصير النقد؟ الأدب شكل من أشكال الكتابة ، والنص أو القصيدة بنية آثار فهي بصمات شبحية ، لكننا واثقون من وجودها ومهمة النقد أن يبدأ بالشك الذي يستند للإقناع ؛ لأنه يعرف أن ما يظهر له ليس كل شيء فالإنسان لا يكتفي بالأشياء كما هي بل يرغب في البحث عن المغيب والتوغل فيه ، فهناك آثار تشبه طبع الأقدام فمن مشى على الرمال؟ لقد مشى أحدهم وخلف وراءه آثار أقدامه في كل مكان وهذه البصمات تذكرنا به إلا أنه غائب ومفقود ، والنقد هو أن تدرك أن الآثار والمعاني التي يخالفها النص مفقودة ، فليس المعنى في بطن أحد من البشر بل هو مفقود ومرجأ ومشتت غير أنه يحيل إحالة دلالية مرجـأة وقابلة للتقويض والتفكيك إلى شيء ما شيء كائن في غيابه وغائب في حضوره. والتفكيك يشبه الكاسحة التي تأتي على أي نموذج مكون ، فهو يأتي على أنظمة وقواعد في النظريات النقدية مثل حبكة ورمز وقيمة ويرفضها ويضع مكانها الأثر والاختلاف ورفض النسق ، وطمس كل قار أثبته الإنسان .
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء