ابو العز.. يوم الأرض .... بقلم: جمال السلقان

فرٍحاً على نحو دائم، نحيل الجسد، عظام صدره البارزة لا يسترها قميصه الرث، يجر عربة صغيرة تحمل اشياء الناس، ومنها يكسب رزقه، لا تسأل كيف يقوى جسده النحيل على حمل برميل ماء، أو ثلاجة، عيناه صغيرتان جدا ونصف مقلوبتين، بالكاد يبصر، خفيف الظل ورشيق الحركة برغم كبر سنِه، ناصري الهوى، هو من جيل النكبة ، وكغيره من معظم ابناء جيله كان لهم هوى كبير بإحدى الأحزاب العربية السائدة آنذاك، لا أحد من سكان مخيم بلاطة يتوقع ان لدى ابو العز الكادح المسكين ترف الاسترخاء لبرهة فينصرف عن كسب ما يسد به حاجة عياله.
انشغل بعض شبان المخيم منذ الصباح الباكر بتجهيز الأعلام التي عملوا على تلوينها سراً في اليوم الفائت تحضيراً للمناسبة، تهامس نشطاء مدرسة بلاطة الإعدادية مع بقية التلاميذ لحثهم على التجمع خارج ابواب المدرسة وعدم التوجه كالمعتاد الى الصفوف عند قرع الجرس الصباحي،
كانت الشعارات المكتوبة تملأ الجدران في جميع شوارع وأزقة المخيم، الجو كان خماسينياً مغبراً وحزيناً بامتياز!
أصوات من بعيد تنقلها الرياح على مسامع التلاميذ، شيئا فشيئاً تقترب الأصوات بينما تزداد اعداد المتجمعين خلف باب المدرسة، تقترب الأصوات أكثر، "بالروح بالدم نفديك يا فلسطين!" بصوت صبايا، ينكشف المشهد على مسيرة بالمئات خرجت بها طالبات بلاطة الإعدادية باتجاه شارع المدارس، تلتقي معها مسيرة أخرى بصوت أكثر خشونة لكن ليس أقل تحريضا ، تجوب التظاهرة شارع السوق وتعود الى شارع المدارس لتأخذ معها كل من شاهدها وسمعها، النساء والرجال والأطفال ينضمون ويهتفون بحرارة وبقلوب مجروحة لكن مفعمة بالتحدي، لم يبق أحد في المخيم لم يخرج الى الشارع ، لم يشهد المخيم مثل هذه المظاهرة منذ جنازة عبد الناصر، الجماهير تزداد حماساً وتصفق وتغني في المخيم الملتهب، يقود الهتاف أحد الرجال المرفوعين على الأكتاف، رجل موهوب متقد يهتف بأعلى الصوت وبأحر الأنغام بوصلات هتاف استقاها من أجمل القصائد الوطنية والعروبية، وجسده ويداه يقفزان مع لحن وصلاته التحريضية، وتتبعه الجماهير في كل صدر وعجز تبادله وتزيد عليه بحماسة ونبرة الصوت، وكأنه يشحن الجماهير تارة فتشحنه الجماهير تارة أخرى الى أن أصبح المخيم كله يهتف بيوم الأرض،.... كم كان العلم جميلاً!
بدأ الجنود يخرجون من سياراتهم التي طوقت المخيم من جميع الجهات، مكبرات الصوت تعلن بأمر من الحاكم العسكري لمدينة نابلس فرض نظام حظر التجول، وبدأت زخات الرصاص الحي تنهمر فوق رؤوس المتظاهرين، يعقبها وابل من القنابل المسيلة للدموع، كان صوت ابو العز وصوت الجماهير أعلى ، لا صوت يعلو فوق صوت المظاهرة، يلقي ابو العز قصيدة أخرى ويختم كلمته بإحدى خطابات جمال عبد الناصر التي يحفظها عن ظهر قلب، يعلن ابو العز ان عصابة الهاجاناة لن تدخل المخيم الا على جثثنا.....
بقي المخيم حر التجوال حتى ساعات الليل، سيارات الهاجاناة لم تحتمل البقاء على عجلاتها عندما كان يمسك بها عشرات الشبان والرجال الذين يتنافسون على قلبها،...
أبو العز كان قوساً تمرديا على نتائج الإستفتاء!
كم كان الشعب حراً!
لم تننته الذكرى ولا المناسبة، بقيتا، وبقيت معهما حاجتنا المؤبدة للتظاهر !
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء