تَلْفيق الكتب...بقلم: خيري منصور
28.12.2011 08:24 AM

ومن حق القارئ العربي أن يتساءل كيف يتسنى لهؤلاء الإحاطة الشاملة بكل أبعاد حدث سياسي معقد خلال أيام، وهل يكتبون بأصابع أيديهم وأقدامهم وباليمنى واليسرى معاً؟
فَهُم لا يتحققون من دقة تاريخ معين أو رقم ما ولا ينتظرون الصلصال كي يبرد قليلاً بلغة النحاتين الذين لا يجازفون بدس أصابعهم في النار، والنتيجة هي كالعادة رفوف من الكتب المطبوخة على عجل وعلى نار ذات لهب وعلى القارئ في النهاية أن يدفع ثمن هذه التجارة .
وللمثال فقط، فإن عدد الكتب التي صدرت بعد اجتياح لبنان عام 1982 يصل إلى المئات، وكان بالطبع لكل واحد بيروته ووتره الخاص الذي عزف عليه، لكن ما تبقى من تلك الكتب على قيد الحياة هو أقل القليل لأنه اخترق السطح إلى العمق، وانتظر حتى أصبحت رؤيته بانورامية لمشهد لا يقبل الاختزال في بندقية ودبابة وشهيد فقط .
ولو عدنا إلى أيام الكفاح الجزائري من أجل الاستقلال قد نجد آلاف العناوين لكتب شعرية وصحفية وتاريخية وسياسية لا نعرف منها الآن غير القليل فقط، لأنه كان عابراً للحظة، وصالحاً لكل أوان تكافح فيه الشعوب على اختلاف هويتها من أجل التحرير والاستقلال .
وبعد حرب أكتوبر عام 1973 أصدر أحد الكتّاب مؤلفاً يتضمن خلاصات لمئة كتاب عن تلك الحرب، ومعظمها أسدل عليه الستار بعد أن توقفت المدافع .
ولأن الثقافة ومناخاتها وتقاليدها لم تكن كذلك في الماضي حتى القريب منه، فإن ما كتب عن غزو المغول للعراق مايزال قابلاً للقراءة وفيه من غزارة المعلومات وصدق المشاهدة ما يطيل في عمره ويمدد صلاحيته لأجيال قادمة .
وما كتب عن ثورة العشرين في العراق وثورة 1919 في مصر والإضراب الشهير في فلسطين، وهو الأطول في التاريخ عام ،1936 لم يكن مطبوخاً على هذا النحو السريع بحيث تكون القشرة شبه مُحْتَرِقة بينما يقطر الدم من الأنساغ النيئة التي لم تصل إليها النار .
ما الذي يضر هؤلاء الباعة المتجولين إذا تريثوا قليلاً كي لا يفوتهم الكثير؟ ما دامت الصحافة والفضائيات تتولى التعليق المباشر على الأحداث ونقلها كما هي .
ومقابل هؤلاء المحترفين في التلفيق ثمة ناشرون مستعدون للصيد حتى في الرمل، وكأن هذا التحالف غير المقدس الذي أشار إليه هربرت ريد ذات يوم هو الحلف المضاد للكاتب الأمين الذي يستوفي شروط موضوعه والناشر الذي لا يجازف بسمعته .
إن معظم هذا الحصاد لم يطل أعالي الشجر والعناقيد التي تتطلب قامة طويلة وباعاً طويلاً، فبقي عند حدود ما يسمى “البعارة”، وهو التقاط ما نضج وتساقط بفعل الريح العاصفة وجاذبية الأرض فقط
عن جريدة الخليج
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء