RQ 170 و«حرب أميركا الطويلة»..بقلم: نهلة الشهال
21.12.2011 05:48 PM

وهكذا عُرضت الطائرة على شاشة التلفزيون الإيراني وهي بالكاد تعاني من كدمات طفيفة. وكان ذلك رداً على المكابرة الأميركية التي أنكرت بداية فقدان أي طائرة، ثم شككت بوقوعها في يد الإيرانيين، وأملت أنها تحطمت في مكان ما فوق تلك الجبال والصحاري الممتدة بين افغانستان وإيران. وبعد فترة خاطفة من الحماقات المعتادة، التي تنبئ بالكثير عن العقلية الأميركية السائدة (ما زالت!)، والمطبوعة بالصلف و«العنتريات» بالمعنى المبتذل (والصفة تظلم كثيراً عنترة، شاعرنا الكبير والشخصية الملحمية)، كمثل مقترحات إرسال فريق متسلل من القوات الخاصة لتدميرها داخل إيران، أو قصفها في عملية عسكرية كما طالب ديك تشيني بكل جدية من على شاشة «سي أن أن»، مهاجماً بحدة أوباما «لتقاعسه»، عاد الاميركان الى لغة أكثر عقلانية وإن لم تكن أقل صلفاً: «قدمنا طلباً رسمياً لاستعادتها»، قال الرئيس، وأضافت وزيرة خارجيته بأنهم لا يأملون كثيراً بأن تستجيب سلطات طهران للطلب «بحكم مسلك إيران حتى الآن» (والطائرة كانت في مهمة لجهاز الاستخبارات المركزي الأميركي على بعد 250 كلمتراً داخل الاراضي الايرانية !). وقد أرفقت التصريحات بالتهديد بمزيد من العقوبات. ورد الإيرانيون أن تلك وقاحة، وأن على واشنطن تقديم اعتذار لخرقها المجال الجوي الإيراني وتجسسها على البلد، ما رد عليه ليون بانيتا، وزير الدفاع الاميركي، بأن «سنستمر حتماً بمهامنا فوق إيران»، وكأنها حق له يستنكر اعتراض إيران عليه. وأخيراً وفي 15 الجاري، نُشرت مقالة طويلة في «كريستيان ساينس مونيتور» تقول الصحيفة إنها نتيجة لقاء مع مهندس إيراني من الجهاز المكلف بالتكنولوجيا العالية، اتخذ لنفسه اسم بايامفرمرزي، يروي بالتفصيل كيف جرى الأمر، ويصرح خصوصاً بأن نقاط الضعف في جهاز التوجيه في الطائرة معروفة من الأميركيين، وكأنه يقول إن الصلف غير المتناهي يحمل الأميركيين على الاستخفاف بخصومهم، فراحت الاصوات الاميركية عن «الفضيحة» تعلو من جديد... مسلسل قلنا لكم!
ولكن صلف الأميركيين لا يحول دون خشيتهم من وقوع التكنولوجيا فائقة التطور لطائرة التجسس هذه في يد الصينيين والروس، الذين يتعاونون مع طهران، والقادرين على الاستفادة السريعة من تكنولوجيتها. فوفق تقرير جديد لـ«معهد دراسات الدفاع الوطني» في واشنطن، معنْوَن «إشترِ، إبنِ أو أسرق: سعي الصين الى تكنولوجيا الطيران العسكري»، يطور الصينيون من بين أشياء أخرى، طائرة (جي ـ 20) القادرة على التهرب من أجهزة الرادار. وفي هذا المجال، فـSentinelRQ-170، وإن لم تكن مسلحة إذ هي تجسسية واستطلاعية، فهي الأكثر تقدماً بين أقرانها والأحدث (وُضعت في الخدمة عام 2009 في افغانستان، وراقبت لأشهر منزل بن لادن وهيأت لاغتياله). وهي موضوعة ضمن برنامج (SCI) الأعلى من نطاق «السرية المطلقة».
وللعلم، فكل طائرة من هذه يقودها طيار ولو عن بعد عشرات آلاف الأميال، ويخدمها180 شخصاً أثناء تحليقها. وقد نجح روبرت غيتس، وزير الدفاع السابق، في تفادي قطع أو تخفيض اي بند من الميزانية المخصصة لتطوير الطائرات بلا طيار على أنواعها، بينما طال التقشف سائر بنود برامج «الدفاع». وبعدما كانت تقوم أيام حكم بوش بمعدل عملية هجومية واحدة كل اربعين يوماً فوق مناطق تحركها، تضاعف المعدل عشر مرات في ظل أوباما.
وتقف الولايات المتحدة في طليعة منتجي ومطوري هذا السلاح في العالم، وتليها ولو عن بعد...إسرائيل. وبسبب من جاذبية هذه الطائرات لمميزاتها التقنية من جهة (كأن تتمكن من الطيران لمدة 24 ساعة متواصلة كما بالنسبة للموديل الذي استولت عليه إيران، وان تتنصت على المكالمات الهاتفية وأن تصور كل شيء بل وتستنشق الهواء وتحلله بحثاً عن آثار ذرية الخ) ولتعزيزها الوهم الاستعماري المتعالي بتحقيق «صفر خسائر» في معسكر أصحابها حين تكون مزودة بالصواريخ والقنابل، أصبحت «نجمة» تتلقفها الأيدي. وفي منتصف الشهر الجاري، أقيم في باريس معرض للطائرات بلا طيار بقصد الدعاية لها وتسويقها. وفضلت فرنسا شراء طائرات «هيرون» الإسرائيلية، من فئة بريداتور (يعني نهَّاب أو قناص، كما تشاؤون). ولكن ما لبثت الفضيحة أن انفجرت: انتقد مجلس الشيوخ قرار وزير الدفاع الفرنسي بصفته «متحيزاً». والتحيز هنا له وظيفة داخلية ولا يستهدف انتقاد الصلة بإسرائيل. فالطائرات السبع المشتراة كبيرة وبطيئة وضعيفة بمواجهة الأنواء الجوية وغير مؤهلة للتزود بالسلاح وغير متوفرة قبل عام 2015، وأغلى من تلك الاميركية بـ30 في المئة! ولكن السر يكمن في أن شركة «داسو» الفرنسية، وأصحابها أصدقاء مقربون جداً من الرئيس الفرنسي، شريك في تصنيع «هيرون»! هناك فارق في السعر بين الخيارين يبلغ 159 مليون يورو دُفعت بكل رحابة صدر، بينما يطال التقشف التعليم والصحة وتقديمات الشيخوخة بحجة الأزمة الاقتصادية الطاحنة...وبينما لا حاجة أصلاً لهذه «الألعاب» المكلفة والقاتلة، والتي تجعل القادة «يحبون الحرب»، كما قال استراتيجي اميركي قديم.
يبقى تفصيل صغير على الرواية الأصلية. فتقارير المؤسسات البحثية الأميركية المتخصصة تشير كلها الى مشكلة من بين سواها مما يمكن غض الطرف عنه (!) كارتكابها اخطاء تسبب بقتل آلاف المدنيين في افغانستان، أو بضرب قوات حليفة كما حدث مع باكستان مؤخراً. المشكلة أنها «غير مؤهلة»ـ يا لتهذيب التعبير، نكاد نعذرها عن ذلك!! ـ للتشارك في المجال الجوي مع الطيران المدني. يعني، أن الولايات المتحدة تطيِّر حالياً، وبكثافة متصاعدة، قنابل في الجو قد تصطدم في أي لحظة بطائرات الركاب! حسناً، لا بد أن اتفاقيات جنيف قد باتت بحاجة للتعديل... أو للإلغاء.
قبل وقوع الفضيحة المتسلسلة إياها، نشرت مجلة «ذي إيكونومست» بتاريخ 8 أكتوبر من العام الجاري، تقريراً تمجيدياً عن الطائرات بلا طيار، ينتهي الى أنها السلاح الأساسي في «حرب أميركا الطويلة». هكذا، من دون تعيين الأعداء، في زلة لسان (أو كرغبة بتطبيع الحرب كأمر حتمي واعتيادي) تشي بعدوانية غير قابلة للشفاء. وطالما الامور كذلك، فـRQ170، واحد/صفر!
عن جريدة السفيرم بيروت
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء