هرمنا المقلوب! – فهمي هويدي

09.01.2014 10:18 AM

إذا أردت أن تتعرف على المدى الذي بلغه الهوس الأمني في مصر، وكيف أنه قلب أولوياتنا رأسا على عقب، فقارن بين انشغال المصريين بأكذوبة مؤامرة "أبلة فاهيتا" وبين متابعتهم لكارثة تسمم أهالي الدلتا بسبب تلوث مياه الشرب.

القصة الأولى لا بد أنك تابعتها، خصوصا ان أصداءها تجاوزت الحدود وأثارت سخرية ودهشة كثيرين في العالم الخارجي.

أما الثانية فأغلب الظن أنك نسيتها لأنها اختفت من وسائل الإعلام ولم يعد أحد يأتي لها على ذكر،
وخلاصتها كالتالي:

في شهر نوفمبر من العام الماضي نشرت الصحف المصرية أخبارا مفادها أن مستشفى الزقازيق العام استقبل عشرات المصابين من قرية الزهراء محافظة الشرقية (تسعون شخصا تقريبا) بعد إصابتهم بأعراض تسمم غذائي لم تعرف أسبابه على وجه التأكيد، إلا أنها تراوحت بين مصدرين هما:
تلوث مياه الشرب بالقرية أو تناولهم وجبة عشاء في حفل زفاف أقيم بها.
 
وقد اهتم رئيس الوزراء حينذاك بالأمر، وظل على اتصال مستمر مع وزيري الصحة والإسكان ومحافظ الشرقية لمتابعة أحوال المصابين وتوفير الرعاية اللازمة لهم.

في الوقت ذاته أجرت نيابة الزقازيق تحقيقاتها وأوفدت من بين أعضائها من استمع إلى أقوال المصابين،
وتم أخذ عينات من متحصلات القيء وعمليات غسيل المعدة التي جرت لهم لإرسالها إلى المعامل المركزية بوزارة الصحة،
كما تم استعجال نتائج تحليل عينات المياه بالمعامل المركزية وشركة المياه لفحصها والوقوف على سبب التسمم.

أضافت التقارير التي نشرت آنذاك أن المصابين وذويهم أكدوا أن إصابتهم سببها تلوث مياه الشرب جراء اختلاطها مع مياه الصرف الصحي،
في حين أن التحاليل والأوراق الرسمية ذكرت أن مياه المحافظة سليمة ومطابقة للمواصفات القياسية لمياه الشرب.

أثار الانتباه في التقارير المنشورة ان بعض المصابين الذين أخذت أقوالهم ذكروا أنهم لم يكونوا من بين الذين تناولوا العشاء في العرس الذي حاولت أجهزة الإدارة اتهامه بالمسؤولية عن التسمم.

ومما رجح الشك في تسمم مياه الشرب. أن محافظ الشرقية أعلن أنه تقرر إنشاء محطة لمعالجة مياه الشرب بالقرية وجيرانها بتكلفة قدرت بستين مليون جنيه، بتمويل من الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي.
وقال ان المحطة المذكورة ستقام على مساحة خمسة أفدنة، وسيتم البدء في إنشائها خلال الأسابيع القادمة (جريدة الأهرام عدد 10 نوفمبر).

التقرير الذي نشره الأهرام يومذاك وأعده ثلاثة من المحررين زاروا القرية، ذكر أن الأهالي أكدوا أن التسمم الذي تكرر عدة مرات من قبل راجع إلى سوء حالة خط ومواسير المياه،
الأمر الذي أدى إلى اختلاطها بالصرف الصحي.

ونقل المحررون عن الأهالي تساؤلهم قائلين إنه إذا لم تكن المياه سبب التسمم، فلماذا هرع المسؤولون لتطهير الشبكة في منتصف الليل، قبل سحب العينات المرسلة إلى المعامل المركزية.
وهو الإجراء الذي ما كان له أن يتم لولا إدراكهم أن المياه هي المشكلة؟

حين حاولت متابعة الموضوع وأجريت اتصالا بمن اعرف في الزقازيق، تلقيت المعلومات التالية:

لم ينفذ وعد المحافظ بالبدء في إنشاء محطة معالجة مياه الشرب، رغم مضى خمسة أسابيع على إعلانه، لأنه ربط التنفيذ بتوفير الأفدنة الخمسة المطلوبة التي يتعين أن يتبرع بها الأهالي لهذا الغرض،
ولأنهم من ذوى الملكيات الصغيرة فلم يتبرع أحد، وتم تجميد المشروع

ــ لم تتوقف حالات التسمم التي لم تكن مقصورة على قرية الزهراء وإنما ظهرت أيضا في قرية بردين المجاورة
ولكن وسائل الإعلام لم تشر إليها إزاء يأس الناس من حل الإشكال فقد لجأ كثيرون منهم إلى الحلول الذاتية ومنها إنشاء بيارات خاصة تحل مشكلة الصرف الصحي، وهذه يتم نزحها بين حين وآخر.

من ناحية أخرى، قال لي الدكتور أحمد شقير مدير مركز أمراض الكلى والمسالك البولية بالمنصورة ان اتفاقا تم مع 3 جامعات ألمانية لإجراء مسح يستهدف التحقق من مدى إسهام مياه الشرب في انتشار بعض الأمراض في مصر، خصوصا في الدلتا، وسرطانات المثانة في المقدمة منها.
ذلك ان الإحصاءات دلت على ان مصر تحتل المرتبة السابعة في العالم بالنسبة للإصابة بذلك النوع من السرطانات.
في حين تحتل المرتبة الأولى في معدل الوفيات جراء الإصابة بها.

ومما قاله الدكتور شقير إن تلوث مياه الشرب أوضح في الدلتا بسبب كثرة المصانع المقامة عليها بالمقارنة بالصعيد،
وان نفايات تلك المصانع إضافة إلى المبيدات الحشرية لها دورها في إحداث التلوث، جنبا إلى جنب مع مياه الصرف الصحي،

ومما ذكره أن الصرف الصحي الذي يدمر حياة كثيرين في الدلتا جراء اختلاطه بمياه الشرب، أصبح يعالج بتقنية عالية في ألمانيا حولته إلى مصدر مهم للطاقة،

حتى ان مدينة هامبورج باتت تعتمد بشكل كامل على تلك الطاقة في تسيير القطارات والمترو،
بل ان علماءهم نجحوا في تحويل مخلفات المجاري إلى مياه صالحة للشرب تصب في الأنهار.
................

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير