نوافذ الذاكرة مضاءة بالقناديل 'في ذكرى ياسر عرفات' .. بقلم: يحيى رباح

11.11.2011 10:32 AM
إنها الذكرى السابعة لرحيل الرجل الذي تليق به الأساطير، الذي ترك لنا ما ننوء بحمله، وترك لنا ما نعتز به إلى حد أنه يعادل وجودنا، والذي ترك لنا ما يجعلنا نفتخر بأنفسنا كشعب، ونفتخر بأنفسنا كأجيال فلسطينية، قضية صعبة أثقل من رواسي الجبال، وأعداء كبار لا يقف في طريقهم أحد، خطيئتهم تروج كأنها الفضيلة، وخطأهم يدعى أنه عين الصواب، ولكننا رغم ذلك كله نبتدع بما يشبه إعجاز القيامة من الموت، ما يجعلنا أمناء على الميراث، أوفياء للحلم، متصالحون مع أنفسنا بأننا لا نهرب من أقدارنا ولا نخون قضايانا المقدسة.

عندما كانت الفكرة ما تزال جنينا في رحم الغيب، دعانا ياسر عرفات إلى رحلة أصعب حتى من تراجيديا الحياة والموت!! وإلى قافلة مهما تساقط من متعبيها فإنها تجدد نفسها بنفسها، وتتغذى على وجعها فتصنع الأمل، رحلة لشعب عائد إلى أصل الأشياء، وأصل الأشياء هي وطنه وحقه الراسخ في هذا الوطن، فلا شيء في الأولويات الوطنية أو السياسية أو الدينية أو الأخلاقية يسبق أولوية أن يكون لنا وطن اسمه فلسطين ينبثق فيه حضورنا من جديد!!!
عجيب هذا الحلم، يقترب كلما توهم الأعداء أنه ابتعد، ويتجسد كلما اعتقد الأشرار أنه تحول إلى مجرد سراب!!

وفي هذه المعاناة التي تبدو أحيانا أنها أولى البديهيات، ثم تبدو أحيانا أخرى أنها مستعصية على الفهم والإدراك والاستيعاب مثل غرائب المستحيلات، في هذه المعاناة التي تحصرنا في قلب المشهد، رغم اختلال موازين القوى، نتذكر ياسر عرفات بأنه منذ أول البدايات لم يدعونا إلى حفلة فرحة، ولا إلى نزهة يسيرة، بل دعانا إلى اشتباك نوعي داخل اللحظة ذاتها، وهذه اللحظة الخاطفة ذاتها قد نشتبك فيها مع أميركا أكبر قوة في الأرض، أو مع إسرائيل المصنوعة من غبش الأساطير، أو مع الأشقاء الذين يريد بعضهم أن نظل صدى وليس صوتا، وأن نظل قضية وليس دولة، وأن نظل لاجئين وليس مواطنين!

بل كثيرا ما نشتبك في اللحظة الخاطفة نفسها مع أنفسنا، مع فلسطينيين ولدوا من نطفة خارج الرحم، من شفرة جينية مغايرة، من شجرة أنساب مزيفة تماما!
يا إلهي، منذ النكبة، منذ انهيار الكيان وسرقة الوطن وبعثرة الهوية، ليس أمام الفلسطيني سوى الاشتباك مع حالات شتى، وادعاءات متعددة، وقوى قادرة تملك كل شيء في حين أن الفلسطيني لا يملك شيئا سوى وعيه بذاته، ووعيه بحقه، ووعيه بأنه دون وطنه فلسطين فإن دورة حياته لا تكتمل.

ياسر عرفات إذاً، تكمن معجزته وفرادته، بأنه قادم من أصلاب هذه القضية، من وجعها الذي لا يضاهى، ومن أسئلتها التي لا تلقى الجواب، فحين يتعرض شعب كامل لعملية سرقة تاريخية كاملة، سرقة الأرض والهوية، سرقة الحق والذاكرة، فلا يكون هناك مفر من الاشتباك لإعادة تأكيد كل ما هو مسروق في أعماق الوعي الجمعي المنتشر على امتداد الأرض، ولإعادة حضور كل ما هو غائب إلى تفاصيل الحياة اليومية.

يعود فينا ياسر عرفات دائما قنديلا مبهر الضياء، نقوم مثله بأقصى بطولات المحاولة الخارقة، ونتجرع معه أقصى مرارات الاكتشاف، ونقوم معه قيامة جديدة بعد كل كارثة بأنه لا خيار لنا سوى أن نذهب إلى النار المتأججة لنأتي منها بقبس، وأن نذهب إلى المجهول بالمطلق لنحيط بدقائق المعلوم، وأن نفكر في المحاولة الجديدة، لأن الزمن الفلسطيني الملحمي المتاح هو فقط زمن المحاولة.

يا سيدي الراحل المقيم، الغائب الحاضر، حتى لو جاء علينا وقت نمنع فيه من الاحتفاء بذكراك، فإن أحدا لا يستطيع أبدا أن يطفئ نوافذ الذاكرة المضاءة بالقناديل.
نتذكر أنك في زمن النسيان رفعت لواء الذاكرة، وأنك في زمن الخذلان تمردت على صكوك البيع التي اقترفها غيرك، وأنك أصبحت فينا مثل السر الذي يميزنا فلا نضيع في الزحام، حتى أننا نعتمد عليك في تحمل ما يصيبنا من رزايا، نقول لبعضنا، وما الذي تحملناه أكثر مما تحملت؟ وما الذي أعطيناه أكثر مما أعطيت؟ وما الذي هو أسوأ من كوننا مازلنا نقاوم متاهات المنفى وبشاعات الاحتلال؟

بعد سبع سنوات من الرحيل التراجيدي، ذهل أعداؤنا إلى حد الصدمة أننا أوفياء أكثر ألف مرة مما تخيلوا، نمتلك هذا القدر الهائل من الوفاء إلى حد أننا نفعل ما لم تتوقعه التقارير، ونشتبك بما لم تتوقعه التهديدات، ونندفع في الهجوم بما يحير أساطين القوة، ماذا يفعلون بنا؟ إن ضغطونا أكثر سننفجر مثل الغاز المضغوط الملتهب، وإن تساهلوا أكثر ملأنا مسامات الأشياء! هذا هو جوهر الحق في عدالة قضيتنا، لا نطلب أكثر من الحق، لا نطلب أكثر من السلام العادل، وأينما ولى الأعداء وجوههم، فإن فلسطين هناك متلألئة بالوجع والحضور ومشنشلة بالأسئلة، إنها الأسئلة التي طرحتها أنت، وطرحها من بعدك من حملوا الأمانة بشجاعة، أسئلة ترددها الأجيال، أسئلة تتحول إلى جينات وراثية، ماذا عن فلسطين، عن دولة تحمل اسم الفلسطينيين في وطنهم الذي كان والذي سوف يبقى ؟
أسئلة قد تجرنا إلى بدايات جديدة، فليكن، سوف نظل نطرح الأسئلة، وسوف نظل نصنع البدايات، فلروحك السلام.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير