على بساط الثلاثاء 128 - حبيب عيسى

07.11.2011 08:06 PM
( 1 )
أعترف ابتداء أن القلق يستبد بي إلى درجة الاضطراب ، وقد كنت طيلة العقود التي استهلكت ما مضى من عمري ، أواجه مثل تلك الحالة بالصمت إلى أن أستعيد السكينة ، ذلك أن الحديث يصدر عن ذات مضطربة لابد أن يناله شيء من الاضطراب ، كما أن الصمت عندما ترتفع أصوات الضجيج أجدى من كلمات لا يستمع إليها أحد ، لكنني وجدت نفسي ، وقد تمردت على تلك القاعدة مرة أخرى ، تيمناً بثورة الشباب العربي ، وتمردهم هذه الأيام ، واعترافاً بأن الصمت لم يعد خياراً ، فالعمر يمضي إلى خواتيمه ، وبالتالي لم يعد أمامك أيها العجوز إلا أن تقول كلمتك ، وتمضي ، هكذا ، وبهذه الكلمات بالذات كنت قد قطعت الصمت منذ بضعة أشهر ، لكن الإحباط كان قد أعادني إليه ، الآن أحاول التمرد على الصمت مرة اخرى ، فقد كنت قد بررت صمتي في الماضي أن : "لا صوت يعلوا على صوت الثوار" بعد أن فشلت في إنتاج صوت يواكب مسيرتهم ، لكن الأصوات التي علت مؤخراً ، وكان المؤمل أن تكون صدى لأرواح شهداء الثورة ، تحولت إلى ضجيج يقلق الشهداء والأحياء من الثوار على حد سواء ، فارتفعت أصوات الثوار ولافتاتهم : ليس باسمنا أيها السادة ...!
( 2 )
ولعل مصدر القلق ، رغم النشوة بمشهد الثوار العرب بين المحيط الذي يعصف هادراً ، والخليج الذي يصرخ ثائراً ، ينبع من مصادر فرعية ثلاثة ، مترابطة موضوعياً ، على ما بينها من تباين ظاهري ، ومصادر القلق ، تلك ، هي :
أولاً : مصدر قلق قادم من خارج الوطن العربي .
ثانياً : مصدر قلق آخر نابع من نظم الاستبداد ، وعقابيلها التخريبية .
ثالثاً : مصدر قلق ثالث نابع من المعارضة التقليدية التي تشتت قواها بفعل القمع الممنهج من قبل أجهزة تسلط الاستبداد المديد وحولهّا إلى أشلاء من شلل مشخصنة وأفراد لامرجعيات لهم ، ففشلت جميعاً ، أفراداً وجماعات ، في تشكيل مؤسسة اعتبارية تكون الحامل للمشروع السياسي للثوار . بل أن بعض تصرفات المعارضين التقليديين وتصريحاتهم تحولت إلى عبء على الثوار ، ومصدر للضبابية وتضارب المواقف ، فتحولت تلك المعارضات إلى جزء من المشكلة ...
( 3 )
لقد جاء الحراك الثوري مفاجئاً لقوى الهيمنة الخارجية ولسلطات الاستبداد الداخلي في الوقت ذاته ، لكن تلك القوى حاولت وتحاول الالتفاف على الثورة ومحاصرتها من خلال بدائل ومؤسسات متمرسة في التآمر ، والقمع ، وتبديل التحالفات ، لكن المشكلة الأساسية تمركزت في المعارضات التي فاجأها الحراك الثوري ، فضاعف من مشكلاتها المزمنة لإنه جاء من خارجها ، ومن حيث لاتتوقع ، هذا الفعل الثوري الذي كان من المفترض أن يكون من اختصاصها فهي المعنية بتحقيقه والفعل فيه ، وهي التي دفع كوادرها عقود من أعمارهم في السجون والمنافي لتحقيقه ، فكيف ينطلق هذا الحراك من حيث لا تدري ؟ ، وما هو دورها فيه ؟ وموقفها منه ؟ ، هنا كان مصدر الإرباك الأول الذي أصاب المعارضة ، أما مصدر الإرباك الثاني فجاء من الاستلاب الذي تعرضت له قوى المعارضة نتيجة إقصائها عن الفعل وتهميش دورها لعقود مديدة ، وبالتالي فقد ترسخ لديها شعور راسخ بأن كل فعل يحدث في الواقع هو بقرار من الخارج ، أو بقرار من أجهزة الاستبداد الداخلي ، وبالتالي عليها أن تنتظر الحل يأتي ، إما من قوى الهيمنة الخارجية ، وإما من أجهزة الاستبداد الداخلي ، وبما أن الثوار يواجهون في حقيقة الأمر هذين المصدرين معاً ، وأن الحل عندهم وطني بامتياز ، فموقفهم من الخارج ومن سلطات الاستبداد هو الذي يرسم حدود علاقاتهم بها ، وليس موقف الخارج أو نظم الاستبداد هو الذي يملي على الثوار مواقفهم ، لذلك فقد انقسمت المعارضة التقليدية في الغالب بين من يبحث عن الحل يأتي من الخارج ، وبين من يبحث عن الحل حواراً مع أجهزة الاستبداد ، بينما حركة الثوار في اتجاه آخر ، وتحول هذا كله إلى أسباب إضافية لتبادل الاتهامات بين أطياف المعارضات التقليدية ، وفشلت كافة الجهود لتوحيدها.
( 4 )
إننا نقدر تقديراً عالياً التضحيات والمواقف الصلبة التي وقفتها المعارضة طيلة العقود المنصرمة ، وما كان لهذه الثورة أن تنطلق من فراغ ، فتراكم التضحيات التي قدمها المناضلون هي التي أنتجت هذه الثورة النبيلة ، ولو كان ذلك غير ظاهر للعيان ، أما كون هذه الثورة انطلقت من خارج الأطر التقليدية فهذا لا يعيب الثورة والثوار ، ولا يعيب المعارضات المقموعة ، لكن ، وقد انطلقت الثورة فهذا يوجب على أطر المعارضات التقليدية ان ترمم مؤسساتها التي دمرها القمع ، وأن تعيد تأهيلها ، لاستنباط نبض الثورة بالتلاحم معها، وأن ترتفع في الأداء لتقارب أداء الثوار وتخضع لمعايير الثورة لا أن تحاول إخضاع الثورة لمعاييرها التي همشت دورها فجاءت الثورة من خارجها .
نحن إذن ننطلق من قيم الثورة ، ونحاول الكتابة على هوامش دفاترها ، أما متن النص فيكتبه الثوار بدمائهم الزكية ، والذين توهموّا أن ما يحدث في الوطن العربي هذه الأيام مجرد صرعة ، يلاقون مصيرهم ، فمنهم من صرعته الثورة ، ومنهم من ينتظر ...
( 5 )
باختصار شديد نقول أن الثوار الذين ينثرون أزاهير هذا الربيع العربي مجبولة بدمائهم بين المحيط والخليج يمتلكون من الوعي مالا يمكن لأحد كائناً من كان أن يعبث بثورتهم ، أو أن يحاول تغيير مسارها ، وبالتالي على المعارضات أن ترّمم أوضاعها وترتقي بالأداء لتكون الحامل السياسي لمشروع الثورة والثوار ، فالواقع الموضوعي الذي يصنعه الثوار سيفرز القوى بناء على مواقفها مما هو كائن الآن ، وليس بناء على مواقفها التي كانت في الماضي ، وهذا سيؤدي إلى عملية فرز حقيقية جديدة داخل تلك القوى ذاتها ، وبناء عليه سنشهد انزياح كوادر هنا ، وانشقاق هناك ، فللثورة نواميسها ، وخلقها الذي يتناسب مع فعلها الثوري ... والثورة ماضية لتحقيق أهدافها ، لا مكان للشطط ، ولا مكان للمتخاذلين ، والتاريخ لايرحم من يتخلف عن فهم نواميسه ...

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير