الانتفاضةُ قادمةٌ.. الانتفاضةُ بعيدةٌ... بقلم: هاني المصري

11.10.2011 02:15 PM

قبل وبعد أيلول، يدور سؤال في ذهن الكثير من المراقبين والمختصين وفي أوساط جماهيرية، عن السبب أو الأسباب وراء عدم اندلاع انتفاضة شاملة حتى الآن. ففي السابق، كانت الانتفاضات  تندلع لأسباب أقل بكثير من التي تشهدها الأراضي الفلسطينية المحتلة حاليًا.

فعملية السلام ماتت تمامًا، لدرجة أن الغالبية العظمى من المنظرين والداعمين لها بدأوا يتحدثون عن ضرورة البحث عن طريق جديد وتغيير قواعد المفاوضات على الأقل.

ولم تندلع الانتفاضة على الرغم من السباق الإسرائيلي المحموم والمجنون على مواصلة العدوان والحصار والاستيطان والعنصرية، وخلق الوقائع الاحتلالية على الأرض.

عادة، لا يستطيع أحد التنبؤ بتوقيت اندلاع الثورات والانتفاضات؛ لأنها لا تحدث بـ"كبسة زر" ولا تنفيذًا لقرار، وإنما نتيجة تفاعل مجموعة من العوامل الذاتية والموضوعية التي لا يعرف أحد أنها نضجت تمامًا، إلا عندما تحين لحظتها وتندلع.

عشية انتفاضة فلسطين في أواخر عام 1987، كتب المحتلون ومنظروهم عن أن الاحتلال بات احتلالًا هادئًا ومربحًا ومريحًا، وأن الفلسطينيين باتوا متعايشين معه ومنشغلين عنه في تحسين ظروف حياتهم تحت الاحتلال، فجاءت الانتفاضة، وأطاحت بأوهام الاحتلال، وقدمت نموذجًا خلاقًا للبشرية جمعاء حين كانت انتفاضة شاملة شارك فيها الجميع، وكادت أن تحقق أهدافها لولا أخطاء فلسطينية، أهمها التسرع بقطف الثمار، وتصور أن الحل بات على الأبواب، وما لم تحدث ظروف ومتغيرات هائلة عربية وإقليمية ودولية مواتية لإسرائيل، بدأت باحتلال العراق للكويت، وانهيار التضامن العربي، ولم تنتهي بسدل الستار على الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفيتي ومعسكره الاشتراكي، وبروز نظام سيطرة القطب الواحد الأميركي على العالم كله.

وبعد انهيار قمة كامب ديفيد الثانية عام 2000، كان متوقعًا حدوث اتنفاضة، ولكن الحسابات كانت مبنية على إمكانية خوض انتفاضة قصيرة تستهدف تحسين شروط الفلسطينيين في المفاوضات مع استمرار الوهم بأن الحل قريب والدولة على الأبواب.

لقد انتهت الانتفاضتان الأولى والثانية بمثلما انتهت إليه الثورات الفلسطينية المندلعة منذ بدء تنفيذ المشروع الصهيوني على أرض فلسطين، دون تحقيق الأهداف الوطنية. وما حققه الكفاح الفلسطيني المستمر منذ 130 عامًا، على أهميته، لا يتناسب على الإطلاق مع حجم المعاناة والتضحيات والبطولات، بل انتهى الشعب الفلسطيني إلى إقامة سلطة تحت الاحتلال، التي انقسمت إلى سلطتين متنازعتين، وأصبح الهم الأول لكل سلطة الحصول على الشرعية ونزعها عن الأخرى، ولو أدى ذلك إلى تعاون مباشر أو غير مباشر مع الاحتلال عدو الفلسطينيين جميعًا، ما ساهم في جعل إمكانية إنهاء الاحتلال وإنجاز الحرية والعودة والاستقلال أبعد عما كانت عليه في السابق.

وإذا أردنا أن نفهم الجذر الحقيقي لعدم اندلاع انتفاضة جديدة حتى الآن، علينا التوقف أمام عدم التناسب ما بين التضحيات الغالية والمكاسب المتحققة، وإذا وجدنا حلًا لهذه المعضلة سنمسك بمفتاح الانتفاضة القادمة. فعلى الرغم من الإرهاق الناجم عن عقود من الصراع والحروب والمجازر والدمار والموت لا يزال الشعب الفلسطيني متمسكًا بأرضه، ومستعدًا للكفاح، ومصممًا على تحقيق أهدافه الوطنية، وهذا ما يفسر أن تيار المقاومة المسلحة وغير المسلحة لم يتوقف عن الجريان بهذا الشكل أو ذاك، ولا ليوم واحد، منذ 130 عامًا وحتى الآن، ولكن من حق الشعب الفلسطيني أن يعرف: لماذا لم ينتصر حتى الآن، وما هي شروط الانتصار؟

 وللدلالة على أصالة الشعب وعدم تمكن الإحباط واليأس منه، نورد ما جاء في استطلاع أخير أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية عشية التوجه إلى الأمم المتحدة، حيث أفاد 75% من المستطلعين أنهم يريدون من السلطة فرض السيادة على كافة الضفة الغربية حتى لو أدى ذلك إلى صدام مع الاحتلال والمستوطنين، وأراد 73% إصرارًا من السلطة الفلسطينية على استلام المعبر والجسر مع الأردن حتى لو أدى ذلك إلى إيقاف الحركة على المعبر، وأيد 35% الانتفاضة المسلحة و64% عارضوا ذلك، وفي المقابل، فإن 61% يؤيدون اللجوء إلى مقاومة شعبية غير عنيفة وغير مسلحة، و54% - وهذا أمر لافت- قالوا: لو قامت مظاهرات سلمية كبرى بهدف اجتياح الحواجز وإغلاق الطرق أمام الجيش والمستوطنين، فإنهم سيشاركون فيها.

تأسيسًا على ما سبق، فإن ما حال دون اندلاع الانتفاضة حتى الآن، التي ستندلع عاجلًا أم آجلًا، أن الفلسطينيين الذين فجروا أكثر من 14 انتفاضة وثورة كبيرة منذ أكثر من 130 عامًا حتى الآن، بمعدل انتفاضة أو ثورة كل 10 سنوات، يترددون الآن في شن انتفاضة أو ثورة جديدة قبل أن يتم استيعاب دروس وعبر الانتفاضات السابقة، حتى لا تتكرر الأخطاء والخطايا.

هل عدم تحقيق الأهداف الفلسطينية يعود إلى أن حجم الأعداء والمخاطر والقرارات أكبر من قدرات الفلسطينيين على صدها والانتصار عليها؟ أم يرجع إلى عجز القيادة الفلسطينية، وأنها ليست بمستوى الشعب وتضحياته وطموحاته، أم إلى الظروف والمتغيرات العربية والإقليمية والدولية، خصوصًا العجز العربي؟ الذي أفقد الفلسطينيين عمقهم الإستراتيجي الطبيعي الذي لا يمكن الانتصار بدونه على احتلال استعماري إجلائي عنصري يشكل امتدادًا للاستعمار الدولي في المنطقة، بحيث يستمد قوته من العلاقة العضوية الإستراتيجية مع الولايات المتحدة الأميركية، أقوى دولة في العالم؟ أم أن عدم تحقيق الأهداف الفلسطينية يرجع إلى عدم تحقيق وحدة وطنية إستراتيجية، ووصول الأمر إلى وقوع الانقسام السياسي والجغرافي.

إن كل هذه الأسباب لعبت وتلعب أدوارًا متفاوتة في عدم تحقيق الانتصار، وبالتالي في عدم اندلاع الانتفاضة.

إن الشعب الفلسطيني لن ينتفض دون وضع أهداف قابلة للتحقيق، فدون أمل لا تثور الشعوب، والشعب الفلسطيني لم يعد مقتنعًا أن انتفاضة أخرى قادرة على تحقيق ما عجز عن تحقيقه حتى الآن، فهو جرب كل شيء ولم ينجح. جرب الجمع ما بين أشكال المقاومة العنفية وغير العنفية، وركز على المقاومة المسلحة حينًا، والشعبية حينًا آخر، وجرب طريق القومية العربية والوحدة ولم ينتصر، وجرب الانفراد بالصراع والحل، وحاول التوصل إلى حل فلسطيني – إسرائيلي منفرد، فوصل إلى الكارثة التي نحن فيها.

ولا يمكن اكتمال تفسير عدم اندلاع الانتفاضة دون إعطاء دور القيادة أهمية كبرى. ففي السابق كانت القيادة الفلسطينية إما أن تدفع وتبادر نحو الانتفاضة أو تلتحق فورًا بها حال اندلاعها لقيادتها والسيطرة عليها، أما الآن، فالقيادة الفلسطينية تعلن، جهارًا نهارًا، أنها ضد الانتفاضة المسلحة، وضد الانتفاضة الشعبية، وأقصى ما تؤيده هو مقاومة شعبية مسيطر عليها لا تؤد إلى مواجهات شاملة ومباشرة مع الاحتلال أو المستوطنين.

أكثر من ذلك، السلطة منذ ولادتها مرتبطة باتفاقات، وتنفذ التزامات تقضي بتصفية البنية التحتية للمقاومة المسلحة ومنع المقاومين واعتقالهم، عبر تنسيق أمني مع الاحتلال، تحول في السنوات الأخيرة إلى تعاون أشاد به قادة الاحتلال أكثر من مرة.

أما السلطة في غزة، فهي حريصة على التهدئة وتعليق المقاومة المسلحة حتى إشعار آخر، حتى لو أدى هذا الأمر إلى القمع واعتقال مطلقي الصواريخ على إسرائيل.

إن إقامة السلطة التي تحولت إلى سلطتين فيما بعد أقام حاجزًا ما بين الشعب والاحتلال، ما يجعل اندلاع الانتفاضة عرضة حتمًا إلى قمع السلطتين. فما لم يتم إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة وبلورة إستراتيجية وطنية قادرة على إعادة النظر في شكل السلطة ووظيفتها والتزاماتها، بحيث تخدم المصلحة الوطنية، ولا تبقى بين نارين ممثلة لشعبها وأهدافه ومصالحه، ورهينة، في نفس الوقت، للاتفاقات والالتزامات التي تجعلها حارسة للاحتلال.

ففي ظل السلطة المقيدة والانقسام المدمر نشأت مصالح وأوضاع تضع عقبات ضخمة أمام مقاومة الاحتلال بكل أشكالها، لذا من المستحيل اندلاع انتفاضة شاملة دون تغيير هذا الواقع، وإقامة واقع تحت راية برنامج وطني وقيادة واحدة تهدف إلى تحقيق الأهداف ااوطنية بأسرع وقت وبأقل التضحيات.

هنا، لا ينفع الحديث عن أن الوضع الاقتصادي المريح نسبيًا أدى إلى عدم اندلاع الانتفاضة؛ لأن انتفاضة عام 1987 اندلعت في ظل وضع اقتصادي جيد، وكذلك الأمر مع انتفاضة الأقصى عام 2000، والوضع الاقتصادي الآن لم يصل على الرغم من تحسنه النسبي إلى المستوى الذي كان عليه عام 2000.

إن عوامل اندلاع الانتفاضة عديدة، يتدخل فيها التاريخ والجغرافيا والدين والسياسة والاقتصاد والثقافة والعامل الوطني، ولا تقاس على الإطلاق بالأحوال الاقتصادية لوحدها، مع أن هذا عامل مهم، ويجب أن يؤخذ بالحسبان، بحيث إن إيقاف الدعم الأميركي ووقف تحويل العائدات الضريبية الفلسطينية التي تجمعها إسرائيل ممكن أن يسرعا في اندلاع الانتفاضة، ولكنهما لا يكفيان لاندلاعها ما لم تتوفر الشروط الأخرى.

لا يمكن تحقيق الانتصار من دون الاستناد إلى الدعم والعمق العربي، وهذا ما يفسر، لماذا تحرك الشباب الفلسطيني بعد الربيع العربي، لكنه تراجع لأن الربيع العربي لم يزهر حتى الآن. فالبلدان العربية التي شهدت ثورات (والتي لم تشهد)، خصوصًا مصر في مرحلة انتقالية مفتوحة على احتمالات عدة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير