م. شوكت الراميني يكتب لوطن: إسرائيل بين الحرب الأهلية وتغيرات الاستراتيجية الأمريكية

تعيش إسرائيل اليوم لحظة مفصلية في تاريخها، تتقاطع فيها أزمتها الداخلية العميقة مع تحولات دولية وإقليمية متسارعة، أبرزها التغيرات في المقاربة الأمريكية للمنطقة. فمنذ اندلاع "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر 2023، ظهر جلياً أن إسرائيل، رغم تفوقها العسكري والدعم الغربي غير المشروط، باتت تعاني من اختلالات بنيوية، وتداخل ديناميكيات القوة والهوية والشرعية في سياق جيوسياسي متشابك، بصورة تهدد تماسكها الداخلي واستقرارها المستقبلي.
وإسرائيلياً، تكررت التحذيرات من اقتراب البلاد من حافة الحرب الأهلية، كما عبّر عن ذلك رئيس الوزراء الأسبق إيهود أولمرت، في ظل مظاهر تمرد داخل الجيش، أبرزها توقيع مئات جنود الاحتياط في وحدة الاستخبارات 8200 على عرائض لرفض الخدمة. وتزامن ذلك مع رسائل مشابهة من أطباء عسكريين، وفنانين، وجنرالات سابقين، وجنود من مختلف القطاعات العسكرية، مع ورود تقارير عن انخفاض الالتزام بالخدمة العسكرية بين الشباب، إضافة إلى ذلك دعوة باحثين وأكاديميين من جامعات مثل تل أبيب والعبرية إلى هدنة فورية، مشيرين إلى أن استمرار الحرب يدمر صورة إسرائيل دولياً ويعزز عزلتها، مما يعكس تراجعاً في الإيمان بالسردية الوطنية ومفهوم "الإجماع الصهيوني" الذي طالما شكّل العمود الفقري للدولة.
هذا التحول الحاد في المزاج العام والنخبوي تزامن مع إخفاق عسكري وسياسي إسرائيلي في تحقيق أهداف الحرب على غزة، رغم استخدامها الأقصى للقوة – باستثناء السلاح النووي، علماً أن شخصيات إسرائيلية رسمية دعت لاستخدامه – والذي تم استبداله بحرب إبادة شاملة غير مسبوقة ضد المدنيين والمؤسسات الداعمة للحياة، وموجهة بالذكاء الاصطناعي، مع تفعيل سلاح التجويع الشامل. فتجاوزت إسرائيل بذلك حدود الرد العسكري المتعارف عليه وبأقصى صوره، مما أثار غضباً دولياً وتآكلاً في صورتها. وعليه، يتشكل واقع جديد قد يحمل في طياته نهاية مرحلة وبداية أخرى مختلفة جذرياً.
المنحنى البياني السياسي الإسرائيلي:
لقد مرت إسرائيل بمراحل تاريخية متعددة منذ إعلان قيامها عام 1948، بدأت بهيمنة التيار العمالي وبناء مؤسسات الدولة، تلتها مرحلة صعود اليمين بقيادة الليكود في السبعينيات، ثم جاءت مرحلة اتفاق أوسلو التي انتهت باغتيال إسحاق رابين عام 1995.والذي شكّل اغتياله لحظة كاشفة لانقسامات المجتمع الإسرائيلي، حيث بدأت تتفكك أسطورة الوحدة الداخلية، وانطلقت رحلة الانحدار التاريخي التدريجي.
ومنذ عام 2009، ومع عودة بنيامين نتنياهو إلى السلطة، دخلت إسرائيل مرحلة جديدة عنوانها الاستقطاب السياسي، واستشراء الفساد، وتغوّل اليمين القومي والديني. وتصاعدت الأزمة في السنوات الأخيرة مع محاولة الحكومة تمرير تعديلات قضائية مثيرة للجدل، فجرت احتجاجات غير مسبوقة، وكشفت عن عمق الانقسام بين "إسرائيل العلمانية الليبرالية" و"إسرائيل الدينية القومية"، تلى ذلك في (7 أكتوبر 2023) مرحلة طوفان الأقصى - زلزال سياسي ومجتمعي تابع في قلب إسرائيل في (2024–2025) الى نظام مأزوم .
إسرائيل والسيناريوهات :
لم تعد إسرائيل دولة ذات هوية واضحة، بل تحوّلت إلى ساحة صراع مفتوح بين مكونات مجتمعية وسياسية متضادة، تتنازع رؤى متباينة حول شكل الدولة ومشروعها المستقبلي. والتغيرات الديمغرافية، لا سيما صعود القوى الدينية واليمينية، وضعت النظام السياسي أمام مفترق طرق تاريخي. وفي ظل غياب توازن سياسي مستقر وافتقاد إجماع وطني شامل، تتزايد احتمالات انزلاق اسرائل نحو سيناريوهات دراماتيكية، ما لم يُبادر إلى تدخل داخلي أو خارجي يعيد التوازن ويأجل انهيار المشروع الاستعماري القائم منذ عام 1948.
السيناريو الأول: دولة ثيوقراطية قومية:
يتجسد هذا السيناريو في هيمنة اليمين الديني القومي، حيث تتحول إسرائيل إلى دولة ثيوقراطية تقوم على التفوق اليهودي.حيث يتسارع في هذا المسار تآكل التيار العلماني والليبرالي، مقابل تزايد الوزن الديمغرافي والسياسي للتيارات الدينية القومية و"الحريديم"، الذين يشكلون اليوم أكثر من 30% من السكان، وتتجه الدولة تدريجياً نحو نموذج ديني متشدد يقصي الأقلية العربية داخل الخط الأخضر بالكامل ويعمل على تحويل التهجير الى خطة واقعية ممكنة، ويقلّص الحريات المدنية حتى داخل المجتمع اليهودي نفسه. ويحول النظام السياسي إلى ثيوقراطية قومية تُكرّس الامتيازات اليهودية على حساب الديمقراطية والمساواة.
السيناريو الثاني: حرب أهلية باردة أو صدام مفتوح:
يتمثل هذا السيناريو في الانزلاق نحو حرب أهلية باردة، أو حتى صدام داخلي مفتوح. يعزز ذلك استمرار الخطاب الإقصائي للتيارات الدينية وتفكيك مؤسسات الدولة الليبرالية، خاصة القضاء، كما تجلى في مشروع "الإصلاح القضائي" بقيادة نتنياهو، الذي يحول الانقسام الأيديولوجي إلى صراع خطيريتشكل بين معسكرين متقابلين: المعسكر العلماني الديمقراطي، المتمركز في تل أبيب والمدن الكبرى، والذي يضم النخب الاقتصادية والأكاديمية وبعض العسكريين؛ والمعسكر الديني القومي، الذي يشمل المستوطنين والحريديم وسكان الأطراف المهمشين اقتصادياً.
السيناريو الثالث: الفدرلة الناعمة والانفصال الاجتماعي:
يرتبط هذا السيناريو بما يمكن تسميته "الفدرلة الناعمة"، أو الانفصال الاجتماعي الداخلي غير المعلن. إذا استمر فشل النموذج المركزي في احتواء التناقضات، قد تتحول إسرائيل إلى كيان هش يتكون من جماعات منعزلة تعيش كل منها في "دولتها المصغرة". فالحريديم يعيشون في أحياء مغلقة بمنظومتهم التعليمية والدينية الخاصة؛ والمستوطنون في الضفة الغربية يتصرفون كسلطة شبه مستقلة خارجة عن القانون الإسرائيلي التقليدي؛ أما العرب داخل الخط الأخضر، فيواجهون تهميشاً بنيوياً يدفعهم إلى تطوير أنماط من الاعتماد الذاتي؛ ويعمل على عزل الفلسطينيين في الضفة الغربية في جيتوات معزولة على طريق التحكم المطلق والتهجير،بينما تميل الطبقة الليبرالية في المدن الكبرى إلى العزلة الاقتصادية والثقافية. ورغم بقاء الشكل الخارجي للدولة موحداً، مما يعكس هذا الواقع المفترض تمزقاً أفقياً وعمودياً في النسيج الوطني، وتآكلاً متسارعاً (للهوية!) الجامعة.
السيناريو الرابع: التدخل الأمريكي وإعادة تشكيل هوية إسرائيل:
في حالة زيادة التأزم الاسرائيلي الداخلي ، والقرب من الدخول في حرب أهلية نتيجة للعوامل الداخية السابقة وتفاعلاتها ، ونتيجة للحرب العبثية ،وحرب الابادة الجماعية والتطهير العرقي ،التي خاضها نتنياهو ومجموعته ، والتي حولت اليهودي الاسرائيلي من ناجي من المحرقة الى مشغل محارق ، فلا بد للأمريكي من التدخل في لحظة ما لاعادة تشكيل الدولة الاسرائيلية وخارطة نفوذها وانقاذها من ذاتها . ويترافق هذا التدخل المحتمل مع المقاربات الأمريكية الجديدة في اعادة صياغة العالم وعلاقاتها بمحيطها وفي داخلها .
كنه المقاربة الأمريكية الضمنية الجديدة :
تشهد العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة تغيراً ملحوظاً مهيأً لمزيد من التصاعد والانكشاف. فإدارة ترامب، رغم انحيازها المعلن لإسرائيل، بدأت تعيد تقييم أولوياتها في منطقة الشرق الأوسط خاصة، وفق استراتيجية "التبريد"، التي تهدف إلى تهدئة الجبهات (غزة، لبنان، إيران، اليمن)، إضافة إلى مناطق أخرى في العالم، بهدف منع التورط في حروب طويلة تضر بالاقتصاد الأمريكي،علماً أن ذلك قد لا يسير بخط مستقيم عملياً، ويتحمل إعلاء التهديد بالحرب أو قليلاً من إشعالها التكتيكي الوظيفي. وفي هذا السياق، باتت إسرائيل تُنظر إليها بوصفها عبئاً على هذا التوجه، خاصة مع تصاعد الغضب الدولي من سلوكها في غزة، والضغط المتزايد على واشنطن لكبحها.
فلقاء ترامب الأخير بنتنياهو حمل رسائل واضحة علنية وسرية: حرب غزة ونهايتها، وفتح قنوات حوار مع إيران، والمسار السياسي. ويبدو نتنياهو عاجزاً عن الاستجابة لهذه المتطلبات، بسبب خضوعه لتحالفاته مع اليمين المتطرف، مما يعمق أزمته ويُسرّع نهايته السياسية المحتملة. ومن الواضح أنه سيحاول القاء كل ما في جعبته من عناصر ضغط وقوة وألاعيب، قبل دخول تلك الاستحقاقات الى مفاعيلها ، وبالتعاون مع (الوسطاء!) الاقليميين.
ومن جهة أخرى، تسعى واشنطن إلى حماية مصالحها في الشرق الأوسط، خصوصاً مع بروز الصين وروسيا كمنافسين استراتيجيين، وتنامي دور دول الخليج كمحاور حيوية في النظام الإقليمي الجديد، ومنطقة توازن اقتصادي وجيوسياسي استراتيجي لصالح الولايات المتحدة. وهذا يتطلب شريكاً إقليمياً مستقراً، لا يشعل الحروب ولا يعيق خططها الاستراتيجية. وفي هذا السياق، تفقد إسرائيل تدريجياً موقعها التقليدي كـ"حليف فوق الشبهات"، لتصبح شريكاً مشروطاً، قد تُفرض عليه قيود، وربما يُجبر لاحقاً على قبول تسوية شاملة تشمل دولة فلسطينية مستقلة، ولو بحدود دنيا.
خاصة مع زيادة عزلة إسرائيل دولياً ومركزية القضية الفلسطينية في المعادلة الإقليمية والدولية القادمة، حيث لن تصمد النظريات العقارية في معالجة قضية وطنية محورية في جغرافيا واقتصاد محوري .
وإن أخطر ما تواجهه إسرائيل اليوم ليس فقط الفشل العسكري والأخلاقي التاريخي في غزة أو الضغوط الدولية المتزايدة، بل تفكك العقد الاجتماعي الداخلي، وانقلاب صورة الإسرائيلي من ناجٍ من الهولوكوست إلى مشعلٍ لها، وغياب المشروع الجامع، والانفصال بين مكونات المجتمع.
ومع غياب أفق سياسي واقتصادي يعالج جذور الأزمة، تتجه إسرائيل الإحلالية نحو لحظة انفجار تاريخية، ما لم يتم احتواء المسار عبر تغييرات جذرية داخلية وخارجية.
وفي مقابل هذه الصورة، فإن قدرة الفلسطينيين على الصمود، رغم الكارثة الإنسانية، تعيد الاعتبار للمشروع الوطني، وتمنح القضية الفلسطينية زخماً جديداً، يمكن أن يُشكّل نواة لتحول إقليمي أوسع، تُعاد فيه صياغة التوازنات ويحجم به المشروع الصهيوني. فإسرائيل، التي كانت تراهن على الاندماج الإقليمي والعالمي، وتجاوز الفلسطينيين ، تجد نفسها اليوم معزولة، ومأزومة، ومهددة من الداخل قبل الخارج.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء