القلوب المُستهلكة .. بين التعلّق والوَعي

كتبت الطالبة نور الهدي أبو عياش: في لحظة صمت، كنت جالسة بين صديقاتي، لكنني لم أكن معهم حقاً جسدي حاضر، لكن روحي كانت تجول في مكان آخر، في ذكريات لم أقرر بعد إن كنت قد تجاوزتها. قطعت صديقتي شرودي بسؤال مباغت: "عمرك دخلتِ بعلاقة وأذتك؟" نظرت إليها، لكنني لم أجب فوراً.
كنت أبحث عن إجابة، أو ربما عن طريقة ألملم بها كل التجارب التي لم أواجه حقيقتها من قبل. فكرت كثيراً، واستنتجت أن معظم العلاقات التي نعيشها قد تحمل في طياتها بعض السُّم، بدرجات متفاوتة. قد لا ندرك ذلك فوراً لكننا نشعر به في طريقة حديثنا عن الشخص، في الأثر الذي يتركه في قلوبنا، في الشعور المتكرر بأننا لسنا كفاية، أو أننا نحاول جاهدين لإنقاذ شيء لم يعد موجوداً.
علاقة واحدة قادرة على أن تستنزفك بالكامل، أن تسحب منك كل طاقتك ومشاعرك حتى تجد نفسك منهكاً، فارغاً، غير قادر على العطاء. قد تغيّرك، تجعلك ترى الحياة بعين مرهقة، تفقد ثقتك بالناس، وتشعر أن الجميع قد يؤذيك. والأسوأ من ذلك، أنك قد تحمل هذا الألم معك، فتقصر بحق من يستحق حبك واهتمامك، فقط لأنك أنفقت كل ما لديك على شخص لم يكن يستحق.
العلاقة لا تصبح سامة فجأة. هي تتغير ببطء، بطريقة لا نلاحظها إلا بعد أن نُستنزف تماماً. تبدأ بمشاعر جميلة، ثم تتسلل الضغوط، التوقعات غير المتوازنة، الصمت الذي يصبح أكثر حضوراً من الكلمات. تجد نفسك تستنزف مشاعرك في علاقة تأخذ منك أكثر مما تمنح، حتى أنك لم تعد تعرف إن كنت حقاً ترغب بالبقاء، أم أنك فقط تخشى الرحيل.
قد يبدو من السهل على أي شخص أن يقول: “غادر” لكن الحقيقة أكثر تعقيداً. نحن لا نبقى لأننا لا نرى الضرر، بل لأننا تعلّقنا. لأننا صدّقنا أن الحب يحتمل كل شيء، أو أن الصداقة التي استمرت لسنوات لا يمكن أن تكون خاطئة. لأننا نأمل أن يعود كل شيء كما كان، رغم أن الواقع يقول غير ذلك
كم مرّة شعرتَ أن العلاقة تقتلك ببطء، ثم عدت تُقنع نفسك أن الأمر مؤقت، أن الغد سيكون أفضل؟
لماذا تُصرّ على البقاء في مكانٍ يطفئك؟ أتخاف أن تفقده، أم تخاف أن تكتشف أنك أضعتَ نفسك من أجله؟
الحقيقة؟ أنت لا تحبّه كما تعتقد، أنت فقط لا تعرف كيف تحبّ نفسك بعد.
كثيراً ما نؤذي أنفسنا بدافع الوهم، وهم الحُب الأعمى، لكنّه في الحقيقة قد يكون ذريعة لملء فراغ ما في قلوبنا، أو إضاءة زاوية معتمة داخلها، أيًّا كان ذلك، فإنَّ الفراغ في القلب لا يُعالج في الحب الأعمى، بل يحتاج إلى فهم الذات وما تريده أولًا.
لكن دعني أُصارحك، ليست كل الأبواب تُفتح لتُدخلك إلى أماكن أُخرى، بعضها يُغلق ليُريك أين كنت ضائعًا. نحن لا نُحب دائمًا لأن الآخر يستحق، بل أحيانًا نُحب لأننا نبحث عن شيء داخلنا، عن صدًى لصوت خافت فينا لم نجرؤ على مواجهته. تعلّقنا بالناس أحيانًا ليس حُبًّا، بل خوفًا من الوحدة، من مواجهة أنفسنا حين لا أحد يُربّت على أرواحنا. لكن إلى متى سنستمر في بيع سلامنا الداخلي مقابل لحظات زائفة؟ متى سندرك أن من يُطفئنا ليس جديرًا بأن نُشعل له قلوبنا؟
سأل جلال الدين الرومي شيخه شمس الدين التبريزي: كيف تبردُ نار النفس؟
قال: بالاستغناء. استغنِ يا ولدي، فمن تَرَكَ مَلَكْ.
قال جلال الدين الرومي: وماذا عن البشر؟
قال: هم صنفان، من أراد منهم هجرك وجد في ثقب الباب مخرجًا، ومن أراد ودك ثقبًا في الصخرة مدخلاً
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء