م. شوكت الراميني يكتب لوطن: خديعة حماس: هزيمة العقل الإسرائيلي

17.03.2025 04:39 PM

 في خضم الصراع الطويل الممتد عبر عقود، برزت حركة حماس كلاعب ديناميكي شديد التعلّم في ساحة السياسة والمقاومة والقيادة، متقنة فن الخديعة الاستراتيجية التي أوقعت إسرائيل، وعلى رأسها بنيامين نتنياهو، في شركٍ محكم من الوهم والتيه، من خلال تطورات متسارعة ومترابطة في فكرها وقدراتها البراغماتية. ففي السنوات الأخيرة، نجحت الحركة في رسم صورةٍ مغايرة لنفسها، صورة تقاطعت فيها البراغماتية السياسية مع السكون العسكري، موهمة إسرائيل أنها قد انصرفت عن أحلام المقاومة الشاملة، وركنت إلى طموحٍ محدودٍ بتأسيس كيانٍ منفصلٍ في غزة وبحلم إدارتها، بعيدٍ عن صخب الصراع الكبير. علماً أنها لم تشر إلى ذلك صراحة، بل هذا ما قرأه المتابعون والمحللون السياسيون والأمنيون بأنها قابلة للتماهي مع فكرة فصل الشعب الفلسطيني جغرافياً وتنظيمياً، وتشتيت القيادة بين أطرافٍ متصارعة، كما حلمت إسرائيل وخططت في ثنايا فكرة الانسحاب الأحادي من غزة في 15 أغسطس عام 2005.

هذه الخديعة برمجت بعمقٍ عقلية نتنياهو الاستراتيجية، فهو السياسي البراغماتي الذي طالما استغل الفجوات لتعزيز سلطته. فاقتنع بأن سكون حماس تأكيدٌ لرؤيته: "من يريد منع قيام دولة فلسطينية يجب أن يدعم تعزيز حماس في غزة"، وأن يضعف السلطة الفلسطينية وإبقاءها ريشة في هبوب الرياح الإسرائيلية، متجاهلاً أي احتمالٍ لأي هجوم مباغت. هذه الخديعة غذاها انشغاله المحموم بتحالفاته مع اليمين الديني الفاشي، ممثلاً بقادة كسموتريتش وبن غفير، لتحقيق رؤية ضم فلسطين التاريخية بأكملها إلى "أرض إسرائيل"، كما عكست في يوم 22 سبتمبر 2023 خلال كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ78 بخريطتين تظهران رؤيته للشرق الأوسط، بما في ذلك فلسطين كجزء من إسرائيل. ففي الخارطة الأولى، كما سماها "بلاد النور"، أظهر فلسطين التاريخية كاملة باللون الأزرق، دون وجود أي ذكر لدولة فلسطينية، وبالخارطة الثانية، التي سماها "بلاد الظلام"، أظهر دولاً كإيران وحلفائها (مثل سوريا والعراق ولبنان واليمن)، معتبراً إياها محور الصراع. أما سموتريتش فقد أظهر خارطة خلفه لما يُسمى "إسرائيل الكبرى" تشمل فلسطين التاريخية والأردن أيضاً، وذلك في مارس 2023، خلال زيارة إلى باريس.
تجليات الخديعة:
تتجلى هذه الخديعة في أمثلةٍ واضحةٍ من سلوك الحركة، كامتناعها عن المشاركة في جولات القتال الأخيرة بين إسرائيل وحركة الجهاد الإسلامي، مما عزز لدى نتنياهو ومستشاريه الاعتقاد بأن حماس قد رضخت لسياسة "التهدئة" مقابل بقائها في الحكم المحلي بغزة. لكن هذا الهدوء لم يكن سوى قناعٍ يخفي تحضيراتٍ دقيقةً لما سيعرف لاحقاً بـ"طوفان الأقصى"، تلك العملية التي قلبت الموازين وكشفت هشاشة التقديرات الإسرائيلية.
وفي هذا السياق، لعبت عوامل عدة دوراً في تعزيز الخديعة التي أوقعت نتنياهو الواهم في فخها. من تلك العوامل تدفق الأموال القطرية إلى غزة بموافقة إسرائيلية، وهو ما شكل طمأنينةً نسبيةً لدى القيادة الإسرائيلية، إذ رأت فيه دليلاً على "استسلام" حماس للواقع الجديد، الذي يعكس استراتيجية نتنياهو في استخدام الدعم المالي القطري لتعميق الانقسام بين الفصائل الفلسطينية، مما يعزز موقف إسرائيل في منع إقامة دولة فلسطينية موحدة. وأسهمت تصريحات يحيى السنوار المتكررة، التي بدت مطمئنةً ومنسجمةً مع سياسة التهدئة، في تعميق هذا الوهم، مثل قوله في 2021: "نحن لا نسعى للحرب، بل لحياة كريمة لشعبنا"، وإن اعتماد الحركة لفترةٍ طويلةٍ على أساليب نضالٍ سلميٍ، كالبالونات الحارقة والمسيرات الأسبوعية على الجدار العازل، زاد من وهم إسرائيل أنها أمام مقاومةٍ رمزيةٍ لا تهدد وجودها.
وطأة التحديات:
وقبل "طوفان الأقصى"، واجهت القضية الفلسطينية تحديات كبيرة هددت بمحوها من التداول الدولي بسبب ضغوط سياسية ودبلوماسية، تزامناً مع تصاعد اقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى لتغيير واقعه الديني والتاريخي، وقسوة غير مسبوقة بحق الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وبدأ ظهور مشاريع فوق استراتيجية تغير خارطة الممرات التجارية التاريخية.وبانطلاق "الطوفان"، انهارت كل تلك الأوهام، تاركةً إسرائيل في صدمةٍ عميقة. فلم يكن الجيش ولا الشاباك ولا الموساد مستعدين لهذا الهجوم، مما أشعل صراعاً داخلياً بين هذه الأجهزة ونتنياهو، الذي حاول التنصل من المسؤولية بلوم القادة العسكريين والاستخباراتيين.
أسباب الهزيمة الإسرائيلية:
تتوافر عدة أسباب سياسية ومعتقدية متشابكة كشفت عن هشاشة المنظومة الإسرائيلية أمام استراتيجية المقاومة المحكمة. فسياسياً، كانت إسرائيل تعيش حالة من الاستقطاب الداخلي العميق، حيث أدت حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، المتحالفة مع أحزاب دينية وقومية متشددة، إلى انقسامات حادة بين المؤسسات العسكرية والأمنية والسياسية. هذا الانقسام تجلى في احتجاجات واسعة ضد إصلاحات قضائية تهدف إلى تقليص سلطة القضاء لصالح الائتلاف الحاكم، مما أضعف التركيز الاستراتيجي للدولة وشغل قادتها عن التهديدات الخارجية. في الوقت نفسه، اعتمد نتنياهو على أن سياسته بتدفق الأموال القطرية إلى غزة ستؤخر أي مواجهة شاملة مع حماس وتحافظ على استقرار سياسي وأمني كما يتمنى ولحظة التي يريد، لكن هذه السياسة انقلبت عكسياً بعدم انجرار حماس لقواعد لعبة نتنياهو التي رسمها.
وعلى الصعيد العقائدي، لعبت الرؤية الصهيونية الدينية المتطرفة دوراً محورياً في هذه الهزيمة. فقد تبنت الحكومة الإسرائيلية، بدعم من اليمين الديني، سياسات استفزازية تجاه الفلسطينيين، أبرزها الاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى من قبل المستوطنين تحت حماية الشرطة، والتي كانت تهدف إلى فرض واقع ديني جديد يتماشى مع أحلام إقامة "الهيكل" المزعوم. هذه الانتهاكات، التي تصاعدت في 2023، أشعلت غضباً عارماً لدى الفلسطينيين، وأعطت حماس مبرراً عقائدياً مواجهاً وقوياً لشن "طوفان الأقصى" كعملية دفاع عن المقدسات، وهو ما عزز شعبيتها وحشد الدعم لها. وفي المقابل، أدى الاعتقاد الإسرائيلي الراسخ في تفوقها العسكري والاستخباراتي إلى غرورٍ استراتيجي، مفترضة أن القبة الحديدية وجدار غزة كافيان لردع أي هجوم. وهذا الاعتماد أدى إلى تهاون في الجاهزية العسكرية التقليدية والتدريبات الميدانية، مما جعل القوات الإسرائيلية غير مستعدة للتعامل مع هجوم واسع النطاق. كما أن السياسات الإسرائيلية الممنهجة لتهميش القضية الفلسطينية، من خلال التوسع الاستيطاني، وهدم البيوت، وقمع الأسرى، خلقت مناخاً من الاحتقان واليأس دفع المقاومة للرد بعملية غير تقليدية. مضافاً إلى ذلك، اعتقاد نتنياهو وحلفائه أن بإمكانهم تصفية القضية نهائياً عبر فرض واقع جديد، كما في خطط ضم الضفة أو تحويل غزة إلى كيان معزول وهش، فأعمى ذلك الاستسهال الإسرائيليين عن قدرة الفلسطينيين على المفاجأة. وهكذا، تجمعت الأسباب السياسية ،من انقسام داخلي وسوء تقدير استراتيجي، مع دوافع المعتقدات ،ومن استفزاز قيمي وغطرسة متجذرة، لتنتج هزيمة سياسية وعسكرية كبرى لإسرائيل في السابع من أكتوبر وتهزم عقلها الاستراتيجي. فوق كل ذلك، ساهم ذكاء الخطة الفلسطينية وعدم القدرة على تخيل هكذا سيناريو مبسط تقنياً وأسلوباً، مع دهاء عسكري عميق، وقوة منفذة صلبة عقائدياً، مع ارتباط بقدرات تقنية وتجسسية دقيقة، كما أظهرتها التحقيقات الإسرائيلية باعتبارها تفوقاً استخباراتياً لحماس، مترافقاً مع مستوى عالٍ من الحذر والاحترافية في التخطيط، ساهم كل ذلك في نجاح الخطة.
تحمل المسؤولية:
بصفته المسؤول الأول عن الدولة، يتحمل بنيامين نتنياهو العبء الأساسي للهزيمة الكبرى التي مُنيت بها إسرائيل في "طوفان الأقصى"، لأن أفكاره السياسية واستقراءاته الخاطئة شكلت الحاضنة الفكرية والمعنوية التي صيغت على أساسها خطط المراكز الأمنية والاستخباراتية والعسكرية. فنتنياهو، كرئيس للوزراء، لم يكن مجرد متخذ قرار تنفيذي، بل كان مهندس الرؤية الاستراتيجية التي حددت مسار الدولة، فتبنى اعتقادات وخططاً أثبتت الوقائع فشلها، مما جعل مسؤوليته تتجاوز مجرد الإشراف إلى تحمل صلب القرار الذي قاد إلى الهزيمة غير المسبوقة.وأن رؤى نتنياهو وتحالفه غير المشروط مع اليمين الديني الفاشي، وهرولته في تبني سياسات استفزازية كالاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى، واعتماده لخطط لتسريع ضم الضفة وعزل غزة كما أشرنا، لم تكن مجرد خطأ عابر، بل مصدر رئيسي للعمى الاستراتيجي عن إمكانية أن تتحول المقاومة إلى قوة هجومية منظمة ومباغتة، وقادرةعلى اختراق الدفاعات بطريقة غير تقليدية.وأن رؤى نتنياهو انعكست على كامل المنظومة الإسرائيلية العسكرية والأمنية، باعتمادها لتقديراته السياسية كإطارٍ مرجعي للتحليل والخطط، وساهمت نرجسيته المطلقة في تعميق ذلك الاتجاه بسبب سلوكه "الإمبراطوري"، وكبحه للاستقلالية الفنية لمفاصل الدولة العسكرية والأمنية وتقديراتها بسبب سطوة شخصيته. ومن هنا، فإن أفكار نتنياهو لم تكن مجرد خلفية نظرية، بل كانت البوصلة التي وجهت الدولة بأكملها، فأثرت على كيفية قراءة المعلومات الاستخباراتية، وتوزيع الموارد العسكرية، وحتى الروح المعنوية للمؤسسات. وعزز انشغاله بالأزمة الداخلية، كالاحتجاجات ضد الإصلاحات القضائية كما أشرنا، من تشتت التركيز الاستراتيجي للدولة، وهو تشتت يعود أساساً إلى سعيه لتثبيت سلطته على حساب الأمن القومي. وهكذا، تكاملت مسؤوليته كقائد يضع الخطط ويرسم التوجهات مع فشل تلك الخطط في مواجهة الواقع، ليصبح السبب الرئيسي للهزيمة، لأن القائد، بما يحمله من رؤى واستقراءات، هو من يحدد مصير كيانه، وعندما تكون تلك الرؤى خاطئة، فإن الانهيار يصبح نتيجة حتمية لسوء تقديره، دون أن ينفي ذلك المسؤولية الخاصة لكل الأجهزة وتشكيلات الكيان. كل ذلك يؤشر إلى فقدان إسرائيل لمهنيتها وتفوقها وتحولها إلى نسخة متخلفة من نسخ دول العالم الثالث المتميزة بفائض القوة التدميرية الهمجية.
استمرار الغي:
بدلاً عن إقرار نتنياهو بمسؤوليته القيادية، استمر بحبكة مصنعة باعتماد تكتيك استمرار الحرب إلى أقصى مدة زمنية، أو منع الوصول إلى وقف دائم للحرب واعتماد حالة اللا حرب واللا سلم، وباشر بالتوازي مع ذلك "بانقلاب أبيض" متدرج، مستغلاً الأزمة لإعادة تشكيل مؤسسات الدولة لصالح حلفائه المتطرفين، بما يضمن في المستقبل موالاة أي لجنة تحقيق له، وضمان تحميل المسؤوليات على الأجهزة الفنية الأخرى من جيش وأمن، مستبقاً كل ذلك بسلسلة استقالات واسعة طوعية ومدفوعة في مفاصل النظام العسكري والأمني الإسرائيلي، لتعزيز تحكمه باللعبة ولفرض خياراته. ونذكر من تلك الحالات استقالة كل من: يوآف جالانت وزير الدفاع الإسرائيلي السابق، وهرتسي هليفي رئيس أركان الجيش، وآفي روزنفيلد قائد فرقة غزة، وبارون فنلكمان قائد المنطقة الجنوبية، وعوديد باسيوك رئيس شعبة العمليات العسكرية، وأهارون هاليفا رئيس شعبة استخبارات الجيش، ويوسي شارئيل قائد وحدة الاستخبارات 8200، ومحاولة إنهاء مهام رونين بار رئيس الشاباك. وللموضوعية، يمكن قراءة خطوات نتنياهو وتكتيكاته من زاويتين متكاملتين، تجمعان بين محاولته للهروب من المسؤولية عن الفشل الأمني والعسكري في 7 أكتوبر 2023 كهدف شخصي ذاتي، وبين سعيه لتسييد نظام يميني ديني فاشي وإعادة صياغة هوية الدولة العبرية. وهذه الخطوات ليست متناقضة، بل تتداخل لتشكل استراتيجية واحدة تخدم بقاءه السياسي وتطلعات حلفائه الأيديولوجيين في آنٍ معاً. ولكن هذه الخطوات غير المسبوقة والمبنية على نظام التحايل والتلاعب السياسي والدفع بإسرائيل إلى حافة الهاوية واستغلال الموقع الرسمي لأقصى مدى، نعم قد تغير من تركيبة الحكم في إسرائيل بشكل جذري، ولكنها ستدفع إلى فقدان حلم الدولة الديمقراطية، وإلى تشظي المجتمع الإسرائيلي على هذه القاعدة، إضافة إلى فقدان إسرائيل وجودها باعتبارها خياراً آمناً.وهكذا، أضحت الخديعة التي سبقت "الطوفان" ليست مجرد تكتيكٍ عابر، بل نقطة تحولٍ كبرى، أعادت خلط الأوراق، وعززت من تعقيد الصراع داخلياً وخارجياً، في واحدةٍ من أشد لحظات التاريخ الفلسطيني والإسرائيلي تقاطعاً وتأزماً، تاركةً سؤالاً معلقاً: هل ستتعافى إسرائيل من هذه الضربة، أم أنها ستغرقها تداعياتها في تحولاتٍ جذريةٍ لا رجعة فيها؟

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير