حق المواطنة الفلسطينية بين "النظرية والتطبيق"

كتب د. علاء رشيد الديك: نتساءل دائما عن ماهية مصطلح "المواطنة" لما له من أهمية عظمى في حياتنا، والذي أصبح يشكل النواة الحقيقية لمجموعة من المبادئ والممارسات التي تنضم العلاقة بين الفرد ومؤسساته والوطن الذي ينتسب إليه. فالمواطنة هي المساواة في الحقوق والواجبات بين الناس ومجموعة من القيم العليا التي تعكس انتماء الفرد لمجتمعه وشعبه ودولته. وبالتالي فإن أهم مقوماتها الحق في الحياة الكريمة والعدالة والمساواة في الحقوق الاجتماعية بصرف النظر عن الجنس أو الدين أو الحزب أو العائلة. وعليه، فالمواطنة يجب أن تستوعب الجميع دون استثناء ومعيار ذلك هو المساواة في كل شيء. فلكل مواطن حقوق وعليه واجبات، والعلاقة بينهما مشتركة ومتبادلة. والمواطنة الحقيقية يجب أن لا تتجاهل التركيبة الثقافية والاجتماعية والسياسية في أي مجتمع، وغير ذلك يصبح المجتمع في حالة من الاغتراب. والجدير بالذكر أن حق المواطنة لا يتحقق بالقوانين النظرية فقط، بل بالممارسات العملية التي يجب أن يلمسها المواطن. وعليه، فإن الحفاظ على فاعلية هذا الحق يتطلب حكم القانون المطلق فقط، وذلك لأن المواطنة هي الرابط الفعلي والحقيقي لحالة الاحترام المتبادل بين المجتمع والدولة، وغياب هذا الحق يجعل المواطن في حالة من الشعور بالظلم المفرط، وعندئذ تكون الدولة في حالة من الفوقية نتيجة غياب النزاهة والشفافية بالحقوق والواجبات. وفي هذا الإطار علينا الإدراك أن المواطنة فكرة اجتماعية وقانونية وسياسية وثقافية تساهم في تطور المجتمعات الإنسانية لتحقيق المساواة والعدل والإنصاف بين أفراد المجتمع.
وبالنظر لخصوصية الحالة الفلسطينية، فإن النظام السياسي الفلسطيني مطلوب منه أن يحافظ "بحزم وثبات" على فاعلية الحق في المواطنة لكل مواطن فلسطيني، لأن الشعب الفلسطيني بكل مكوناته مازال تحت الاحتلال، يناضل ويكافح من أجل حريته بهدف تحقيق أهدافه السياسية العادلة والمشروعة في الحرية والعودة وتقرير المصير. في المقابل، نرى بعض الحالات من أبناء شعبنا، ولا حاجة للتعميم هنا لنكون أكثر مصداقية وموضوعية، مازالت تشعر بغياب حق المواطنة عنهم والشعور بالاغتراب في وطنهم بكل أسف، ونحن كفلسطينيين بأمس الحاجة لتعزيز الانتماء والحق في المواطنة في وطننا أكثر من غيرنا، وذلك بسبب وضعنا الاستثنائي نتيجة لاستمرار الإحتلال وغياب تحقيق أهدافنا وحقوقنا الوطنية العادلة على الأرض الفلسطينية. وهذا ما دفعني لكتابة هذا المقال الذي يهدف لتسليط الضوء على هذه الظاهرة وأفاقها المستقبلية، وتحفيز اصحاب القرار في النظام السياسي الفلسطيني بكل مكوناته للتحرك لحماية وصون حقوق المواطن وحقه في المواطنة الفاعلة.
في الرابع عشر من حزيران عام 2020 رحل عنا الأخوين عمار وضياء رشيد الديك رحمهما الله نتيجة الإختناق، بسبب تقصير جهاز الدفاع المدني في محافظة سلفيت بإنقاذهما من داخل بئر ماء في منزلهما أثناء التنظيف بهدف شرب ماء نقي. الأمر الذي جعل الجهة الرسمية في محافظة سلفيت، بإتهام الأخوين الديك بالتفتيش عن الأثار في مكان أثري بهدف خلط الأوراق في القضية للتغطية على التقصير والإهمال الذي حصل من أجهزة الدولة في الإنقاذ، وكذلك التقليل من أهمية ما حدث ونزع التعاطف الشعبي مع القضية وما نتج عنها خوفاً من أن تصبح قضية رأي عام. وعليه، فقد حملت لجنة التحقيق الرسمية في الحادثة التي شكلتها الجهة الرسمية في محافظة سلفيت بتاريخ 17 يونيو 2020، والتي شكلت من أجهزة الأمن الفلسطينية وبعض دوائر الاختصاص مع غياب ممثلين عن العائلة أو هيئات حقوقية تتعلق بحالة حقوق الإنسان، أو أي جهات رقابية أخرى في فلسطين، الأخوين الديك مسؤولية الحادثة وما نتج عنها دون التعقيب على التقصير والإهمال وعدم الجهوزية الذي نتج عنه الإخفاق بالإنقاذ من قبل افراد جهاز الدفاع المدني في محافظة سلفيت للأخوين الديك.
وبناءاً على ذلك، طالبت عائلة الأخوين الديك الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان "ديوان المظالم" في فلسطين بضرورة إجراء تحقيق مهني وموضوعي مستقل في الحادثة بهدف إبراز الحقيقة للرأي العام، وتحميل الجهات المختصة مسؤولية ما حدث بهدف تعلم دروس وعبر مما حدث لتفادي حصول ذلك في منزل مواطن أخر لحماية أرواح الناس، وكذلك تعزيز الحوكمة في المؤسسات الوطنية بشكل بهدف تحقيق النزاهة والشفافية والمساءلة. وعليه، صدر تقرير تقصي حقائق خاص بالحادثة صادر عن الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان في فلسطين، الذي حمل جهاز الدفاع المدني الفلسطيني مسؤولية الإخفاق والإهمال الذي حصل لإنقاذ الأخوين الديك وبالتالي المسؤولية عن الحادثة وما نتج عنها، وصدر هذا التقرير بتاريخ 22 نوفمبر 2020.
ومع صدور هذا التقرير الهام توجهت عائلة الأخوين الديك للجهات الرسمية في رام الله بهدف اطلاعهم عليه والسعي للإستفادة من نتائجه ومخرجاته، والمطالبة بعمل لجنة تحقيق مستقلة أكثر تعددية وإنصاف في الحادثة لمعالجة الإخفاق التي حصل والوقوف على حقيقة ما جرى. ولكن وللأسف لم تهتم تلك الجهات بالتقرير وبنتائجه أو مخرجاته. وعليه توجهت العائلة للقضاء الفلسطيني برفع دعوى قضائية بشقها المدني في محكمة بداية رام الله بتاريخ 27 مايو 2021، التي ما زالت تنظر في المحكمة وتؤجل دون الدخول في الأساس.
ومع اقتراب الذكرى الخامسة لرحيل الأخوين الديك رحمهما الله، لا يوجد أي اهتمام في القضية أو التعقيب عليها من قبل الجهات الرسمية أو أي من الجهات الرقابية والمرجعيات العليا للشعب الفلسطيني. أو حتى قرار قضائي بقبول القضية والدخول في مضامينها منذ أربع سنوات تقريباً، وخاصة أننا نتحدث عن مصيبة إنسانية حلت بعائلة وطنية لها حقوق وواجبات المواطنة الفلسطينية حسب القانون والدستور. وعليه، نستطيع القول أن حق المواطنة لهذه العائلة قد سقط بالتقادم من وجهة نظر بعض الجهات الرسمية سواء بمحافظة سلفيت أو في العاصمة السياسية رام الله، وخاصة بعد أن طالبت العائلة بضرورة قول الحق وتحقيق العدل والإنصاف والحوكمة في المؤسسات التنفيذية للدولة تجاه الحادثة وما رافقها من نتائج ومخرجات، ومحاسبة كل من أساء وأطلق التهم تجاه العائلة وذويهما بدون إثبات، ومساءلة المسؤولين عن الإهمال والتقصير بالإنقاذ الذي حدث تجاه الأخوين الديك أبان الحادثة.
في المحصلة، إن تلك الحادثة وما رافقها من أحداث وإجراءات وتطورات تضع حق المواطنة في "النظرية والتطبيق" للإنسان الفلسطيني أمام حالة استفسار مفادها: هل حق المواطنة في فلسطين مرتبط بشروط ومعايير لم تنطبق بعد على تلك العائلة؟ أم أن هناك متطلبات جديدة لحق المواطنة في فلسطين مرتبطة بالانتماء الحزبي أو العائلي أو ما شابه، وخاصة أن العائلة تنتمي لحزب وطني عريق من فصائل منظمة التحرير الفلسطينية غير الحزب الحاكم؟. وعليه، فنحن أمام حالة استثنائية لم يسبق لها مثيل من ألم الفراق وفاجعة الحدث، وعدم الاكتراث والاهتمام بكرامة الأخوين الديك وحقهم في الحياة، تضع حق المواطنة الفلسطينية على المحك، فإما أن نقف عند مسؤولياتنا ونحمل من أساء وقصر مسؤولية الأداء والسلوك الخاطئ الذي أضر بالمواطنين وبكرامتهم وحقهم في الحياة من خلال فاعلية المحاسبة والمساءلة لتحقيق النزاهة والشفافية بهدف الحفاظ على المؤسسة وسيادة القانون المطلق دون استثناء، وبالتالي صون وحماية حوكمة المؤسسة وإنجازاتها الوطنية والمهنية التي تحققت، وخاصة أننا في مرحلة التحرر الوطني والبناء الديمقراطي لمؤسسات الدولة. على الجانب الأخر، أن يكون حق المواطنة الفلسطينية مجرد شعار وأقوال نظرية نتباهى بها أمام الأخرين فقط، ونحن بأمس الحاجة لها ولتطبيق مبادئها وقيمها بالممارسة العملية "الحازمة والثابتة" دون نقصان، وذلك بسبب حال فلسطين النازف والطواق للحرية والعدالة والمساواة. فهل من مستجيب لذلك، قبل فوات الأوان.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء