‏القمة العربية .. هل تغادر حليمة عادتها القديمة؟

11.03.2025 12:22 PM

 كتب   عمر عساف: لعل نظرة تاريخية للقمم العربية التي مضى على مسلسلها 60 عاما كفيل بوضعنا أمام استحقاق يشي بالواقع، فالقمة العربية الأولى عام 1964 عقدت لمنع تحويل منابع نهر الأردن ، والنتيجة أن المنابع حولت ولم تنفذ قرارات التصدي للتحويل،  اما قمة  الخرطوم ذات اللاءات الثلاثة " لا صلح  ولا مفاوضات ولا اعتراف باسرائيل"، فلم تصمد هذه اللاءات لعقد من الزمن حيث وقع الصلح وقبلت الإملاءات والإعتراف في كامب ديفيد ١٩٧٨، واضيف عليها التطبيع الرسمي بعد أن ألغي مكتب المقاطعة الذي تم إنشاؤه  قبل تجمعات القمة، التي كانت أقرب الى العلاقات القبلية بتبادل القبلات وبيانات الختام التي تؤكد على العمل العربي المشترك والتصدي للمخاطر التي تواجه الأمة العربية.

‏       ولا بد من  الإشارة إلى عدد من السمات التي اتسمت بها القمم العربية وهو الحضور الأمريكي المهيمن على قراراتها والتدخل في هذه القرارات وبياناتها الختامية ومتابعتها كلمة كلمة، بل ذهب البعض ابعد من ذلك في تجسس الاحتلال على مداولات و قرارات  بعض القمم، الأمر الآخر الذي وسم القمم هو الصراعات والنزاعات والتباينات التي شهدتها هذه القمم وبالتالي فإن اجتماعات القادة العرب وقراراتهم لم تؤخذ على محمل الجد أو الفعل من قبل إسرائيل بشكل خاص.
ولعل من  المفيد التذكير بثلاث محطات شكلت علامات فارقة لفحص هذه الجدية الأول :عام 1964 بشأن تحويل روافد نهر الأردن كما سلف والثاني: لدى حرق المسجد الأقصى عام 1969 وتنادي الزعماء العرب لعقد قمة والذي توقعت خلاله غولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل أن الأمة العربية والإسلامية ستحارب من اجل الأقصى والمقدسات  والدفاع عنها ولم يحصل ذلك،  والثالث: حين حوصرت بيروت واحتلت أول عاصمة عربية عام 1982 أثر الغزو الإسرائيلي للبنان، هذه المحطات الثلاثة شكلت مختبرا جدياً لمن يود التساؤل عن الدور الفعلي للنظام  الرسمي العربي تجاه  قضايا الأمة وتحديات شعوبها ومصالح هذه الشعوب التي تتعرض لنهب ثرواتها واستباحة اراضيها.
‏ إن ضعف النظام الرسمي العربي وتهافته يعود إلى انفصام معظم هذه الأنظمة عن شعوبها وغياب الحريات والتعددية في هذه الدول واعتماد سياسة القمع والاضطهاد مع المعارضين السياسيين، واعتماد كثيرمن هؤلاء الحكام في بقائهم في سدة الحكم على  الدعم الخارجي والحماية الغربية بعيداً عن إرادة الشعوب وغياب الانتخابات الديمقراطية وتداول السلطة حيث تحولت حتى الأنظمة الجمهورية إلى ممالك تورث الحكم للأبناء وأمثلتها كثيرة من مصر إلى العراق وسوريا وليبيا.
  ‏في هذا الوضع جاء طوفان الأقصى وحرب الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني بعد 16 عاماً من الحصار منذ عام 2007، ولا مجال هنا للحديث عن طوفان الأقصى من حيث الأسباب والمسار والإنجازات وموقف شعوب العالم من الجرائم الإسرائيلية والتحرك المرعوب والخجول من الشعوب العربية الذي حال القمع والموقف الرسمي دون تطوره  وابقاه أقرب إلى تنفيس الغضب والطاقات الشعبية منه إلى توظيف تلك الطاقات الشعبية  في تهديد  مصالح دول العدوان كما حصل في عدوان السويس عام 1956 أو في تخفيض إنتاج النفط عام 1973 خلال حرب أكتوبر قبل أكثر من 50 عاماً.
‏15 شهرا من العدوان  والتدمير والإبادة  الجماعية والتهجير لمئات آلاف الفلسطينيين من الشمال إلى الجنوب دون أن تبادر دولة عربية واحدة لقطع علاقاتها بدولة الاحتلال ودون أن تهدد دولة بالغاء اتفاق "سلام" او اتفاقية تطبيع ودون أن تطرد دولة سفيراً او تغلق سفارة او تنهي إحدى دول التطبيع علاقاتها بالاحتلال،  بل أكثر من ذلك شكلت بعض الدول ظهيراً للإحتلال تحت شعار "حماية الأجواء" فقد أسقطت السعودية أكثر من صاروخ يمني في طريقه لضرب الكيان وكذلك اسقطت عدد من الصواريخ والمسيرات الإيرانية فوق أراض عربية، ولا أقل من ذلك، ازدياد تصدير المواد الغذائية من تركيا وبعض الدول العربية لإسرائيل للتخفيف من معاناة الكيان الغذائية.
‏وخلال الخمسة عشر شهراً من العدوان وفرت المقاومة بصمودها والالتفاف الشعبي للحاضنة الشعبية حولها وجبهات الإسناد  الظروف المواتية لاستثمارها من قبل النظام الرسم العربي لتجاوز حالة الخذلان التي عانى شعبنا الأمرين جراءها،  وكأن بعض اوساط النظام ينتظر هزيمة المقاومة واستسلامها لتزيح عبئاً ملقى على عاتقه جراء مزاج الشعوب العربية واحرار العالم.
  ‏في هذا السياق عقدت القمة العربية اواسط عام 2024 بعد سبعة أشهر من العدوان وجاء في قراراتها ضرورة وقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، رفع الحصار المفروض عليها وانسحاب قوات الاحتلال من غزة، كما دعت إلى فتح المعابر وتمكين المنظمات الدولية من أداء مهماتها،  هذه القرارات بالطبع لم توضع أية آليات لتنفيذ أي منها واكتفت بتسجيل موقف للتاريخ وكفى الله  المؤمنين شر القتال.
  وليس بعيداً عن هذه القمة، القمة الإسلامية أواخر 2024 لمواجهة العدوان على غزة ولبنان، حيث دعا القادة إلى اتخاذ إجراءات "صارمة ‏" ضد إسرائيل، وإلى تعليق عضويتها في الأمم المتحدة، ووقف التجارة معها ووقف إطلاق النار وتوفير المساعدة للمدنيين، وشأنها شأن القرارات السابقة ظلت في الأدراج.
   ‏اما القمة التي نحن بصددها  فقد سبقتها خلال شباط الماضي قمة إفريقية من أبرز قراراتها فيما يتعلق بالعدوان؛ أن القمة دعت الدول الأعضاء إلى "وقف جميع أشكال التعاون مع إسرائيل" تعبيراً عن الموقف الموحد تجاه القضية الفلسطينية، في ظل هذا وإثر تصريحات  الرئيس الأمريكي ترامب ودعوته إلى تهجير الفلسطينيين من غزة (ولاحقاً من الضفة) إلى الأردن ومصر،  "وعليهما القبول بذلك لأننا ندفع لهما" ودعوة نتنياهو إلى إقامة الدولة الفلسطينية في السعودية، في ظل هذا الوضع جاء انعقاد القمة العربية في الرابع من اذار الحالي 2025 وسبق هذه القمة خلوة خليجية اردنية مصرية لبلورة موقف موحد تتبناه القمة و استثني الجانب الفلسطيني من حضور هذه الخلوة.
   ‏وفي الحديث عن القمة  إذا انطلقنا من البناء على ما سبق يمكن القول أن "المكتوب يقرأ من عنوانه"  وأن " كل إناء  بما بما فيه ينضح ". واذا كنا دعونا نلاحق العيار الى باب الدار سنقول ننتظر ونرى، فمن حيث الشكل ترأس القمة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي زعيم نظام كامب ديفيد الذي خرج عن الإجماع العربي وعقد أول اتفاقية صلح مع إسرائيل عام 1978 ولا مجال هنا للحديث حول تعاطيه مع قطاع غزة، مع أنه يرفض التهجير باعتباره قضية امن قومي مصري، وإلى جانبه حمد ابن عيسى ملك البحرين عراب التطبيع واحد أركان الاتفاقات الإبراهيمية، ومن جانب آخر تغيب عن القمة الرئيسان الجزائري والتونسي لعدم الرضا عن المخرجات المتوقعة كما غاب محمد ابن سلمان ومحمد بن زايد وأمير الكويت وهذا من شأنه أن يخفض مستوى التمثيل وجدية النتائج المتوقعة.
  ‏أما على صعيد المضمون فقد كان المأمول  والمرجو الذي يتمناه الفلسطينيون والشعوب العربية أن يُكفر الزعماء العرب عن خذلانهم  للشعب الفلسطيني على مدى 16 شهراً، وأن تكون قراراتهم بمستوى التضحيات التي قدمها الشعب الفلسطيني والتي بلغت حوالي 50 الف شهيد وأكثر من 110 الآف جريح، وصموده البطولي، وبمستوى التحديات التي تواجه الأمة العربية في ظل المتغيرات الدولية والسياسة الأمريكية العدوانية ليس فقط على صعيد الشرق الأوسط، ولكن على صعيد العالم، خصوصاً وأن سكين التهجير لترامب ونتنياهو وصل إلى تهديد وجود وكرامة هذه الدول وبالطبع انظمتها وأن عليهم أن يستيقظوا من سباتهم مع أن المقدمات لا تشي بذلك. وهكذا مدخلات ستكون مخرجاتها غير مفاجئة، وغير ثورية وليست بمستوى التوقعات المأمولة.
        صحيح ان قرارات القمة قد رفضت مشروع ترامب بشأن تهجير سكان  قطاع غزة شأنها شأن الاتحاد الأوروبي ودول العالم كلها التي رفضت هذا المشروع الذي يتعارض والقانون الدولي بل يرقى إلى مستوى جريمة حرب، فإنها لم تكن حازمة  في رفضها هذا،  ولم تهدد المصالح الأمريكية في المنطقة، ولم تجرؤ على التلويح بإتخاذ أي إجراء لإسقاط مشروع ترامب ودرء مخاطره.
   ‏وصحيح ايضاً أن القمة  طرحت خطة اعتراضية بتبني المشروع المصري للإعمار بكلفة 53 مليار دولار خلال خمس سنوات وبقاء سكان القطاع فيه لكن لم تحدد القمة أية آليات كي يشق هذا المشروع طريقة وكيف سيتم تمويل هذا المشروع وما الإجراءات التي ستتتخذها لإجبار إسرائيل على عدم تعطيل تنفيذ هذا المشروع ؟ وما الذي تتحمله إسرائيل كدولة محتلة تسببت في هذا الدمار والعدوان أمام المحافل الدولية في تعويض هذا الدمار لقطاع غزة واهله؟ .
‏وفي محاولة للمقارنة كان القادة الأفارقة اكثر عروبة من قمة العرب فقد جاء سقف قرارات القمة العربية اقل حزماً من قرارات القمة الإفريقية التي دعت إلى " وقف التعاون  مع دولة الاحتلال حتى وقف العدوان " ولم يصدر عن القمة هكذا قرار، لماذا؟ لأن مصداقية القمة ستوقف على تطبيق هذا الشق من القرارات في سقف زمني مرئي.
     من جانب آخر وامام التباين بشأن سلاح المقاومة طلبت بعض الدول مقايضة الإعمار بنزع سلاح المقاومة وإنهاء وجود قوى المقاومة وفي المقدمة منها حماس في قطاع غزة، مقابل الإعمار " وهل سندفع دون ان نضمن عدم التدمير ثانية ؟" وحين رفض ذلك من بعض الدول وتم ربط نزع سلاح المقاومة بإنهاء الاحتلال، وتحقيق السلام وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، وهكذا ذهبت القمة إلى حل يوصل إلى ذات النتيجة بطريقة ملتوية من خلال أن تتولى أجهزة أمن السلطة التي تتمسك بعقيدة  دايتون وبنزل المسؤولية الأمنية عن قطاع غزة، أي ان يغدو قطاع غزة مثل الضفة الغربية تتولى المسؤولية الأمنية الشاملة فيه قوات الاحتلال وتستبيحه متى شاءت، في حين تتولى اجهزة امن السلطة من خلال التنسيق الأمني مساعدتها في قمع وإنهاء المقاومة.
  الأمر الآخر يتعلق بالشأن الداخلي الفلسطيني إذا تسربت أنباء عن أن دعوة محمود عباس كان شرطها أن يعلن في القمة ما أعلنه من مصالحة فتحوية داخلية وتعيين نائب رئيس وانتخابات خلال عام، بعد أن تم تغييبه عن خلوة الرياض مع أن موضوعها هو فلسطين وتم إحضاره للقمة وفق هذه الإشتراطات.
  ‏ويظل الاختبار الحقيقي لأية قرارات هو مدى ترجمتها وتطبيقها على ارض الواقع ويظل السؤال المطروح بشأن جدوى وجدية قرارات القمة وصدقيتها ايضاً، ماذا لو قالت إسرائيل لا لقرارات القمة وخطة الإعمار لن نسمح بتطبيقها؟ وماذا لو قال ترامب لا وتمسك بخطته ؟ وكلاهما قال ذلك، ماذا ستفعل قمة  العرب بهذه القرارات؟ وما الروافع التي ستحملها؟ وما اوراق القوة التي يمكن استخدامها لتنفيذ هذه القرارات؟ والجواب هو ان لا  روافع ولا إرادة  ولاحول ولا قوة ، وبالتالي فإن قرارات القمة قد تراوح   مكانها وكان شيئا لم يكن إذا لم تتوفر آليات ترجمتها، وأعتقد لا أحد يرغب او يريد ان توضع هذه القرارات على الرفوف شأنها شأن قرارات عام 1964  بشأن مياه نهر الأردن، وشأنها شأن لاءات الخرطوم 1967 وكمبادرة السلام العربية في بيروت عام 2002، التي دعستها الدبابات الإسرائيلية باجتياح مدن الضفة الغربية وقلب هرمها على رأسه، ففيها اشترط التطبيع بإنجاز اتفاق السلام وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس وحل قضية اللاجئين، فتقدم التطبيع من دول ليس لديها اتفاقات سلام مع إسرائيل وتراجعت بل انتفت إمكانية قيام دولة الفلسطينية في الأراضي المحتلة بالعدوان 1967 وتحولت الأراضي الفلسطينية إلى معازل ( بانتستونات ) يفصل بينها 900 الف مستوطن في مئات المستوطنات.
خلاصة القول أن ترجمة وتطبيق قرارات القمة من شأنه ان ينقل النظام الرسمي لتجاوز الدور الذي أسست بريطانيا جامعته "جامعة الدول العربية "  أربعينيات القرن الماضي من اجله وهو تحقيق أهدافها في الحيلولة  دون إنجاز وحدة الشعوب العربية ، التي كانت هدفاً تسعى له الشعوب في تلك المرحلة، وليبقى  النظام الرسمي العربي أداة  في يد الاستعمار يحول دون الشعوب وتحقيق تحررها وأهدافها بانجاز استقلالها الوطني والسيطرة على ثرواتها، مقابل حماية الدول الكبرى  لهذه الأنظمة وابقاء بعض  الحكام  ممسكين  برقاب شعوبهم عبر القمع والقهر، وهذا يعكس أيضا قصوراً في الحركات الوطنية في هذه الدول.
ولعل البديل الوحيد والممكن لهذا الوضع هو تحرك الشعوب العربية والإسلامية، التي أثبتت تجارب التاريخ أنها وحدها القادرة على قلب الموازين عندما تتوحد إرادتها وتنتظم قواها.
ولعل  أولى خطوات استعادة زمام المبادرة تبدأ من بناء حركات شعبية عابرة للحدود، تتجاوز الانقسامات المصطنعة، وتنظم صفوفها على قاعدة دعم المقاومة، ووقف كل أشكال التطبيع، ومقاطعة العدو الصهيوني اقتصادياً وسياسياً وثقافياً.
إن تأسيس جبهات عربية موحدة من القوى الحية، والحركات الوطنية والمقاومة، ولجان التضامن، هو البديل الحقيقي الذي يعبر عن وجدان الأمة، ويمثل امتداداً لثورات الشعوب العربية التي لطالما واجهت الاستعمار في مراحله القديمة والجديدة. فكما أسقطت الشعوب المستعمر القديم، فهي قادرة اليوم على كنس وكلائه وإنهاء حقبة الضعف والانبطاح.
  هذا كله لن  يتحقق إلا حين تتيقن الشعوب  بقواها الحية وطلائعها ومثقفيها أن المعركة اليوم ليست فقط على حدود غزة أو جنوب لبنان، بل هي معركة على وجودها وهويتها ومستقبلها، وأن هذا الزمن هو زمن الحسم، لا زمن المراوحة والانتظار. لقد آن الأوان لأن تنهض الأمة، وأن تحسم خيارها نحو التحرر، بيدها، ومن أجلها، ولأجل أجيالها القادمة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير