محاولات الولايات المتحدة ضم جرينلاند: قراءة في الدوافع والسيناريوهات المحتملة

كتب *رائد محمد الدبعي: مطامع ترامب المتجددة لضم جزيرة جرينلاند ليست الأولى من نوعها للولايات المتحدة الأمريكية بهذا الشأن، إذ عرضت إدارة الرئيس " أندرو جونسون " عام 1867 شراء الجزيرة الأكبر عالميا والتي تبلغ مساحتها 2.2 مليون كيلو متر مربع، لتوسيع نفوذها الإقليمي، وإضعاف النفوذ الأوروبي في نصف الكرة الغربي، بعد نجاحها بشراء ألاسكا من روسيا في ذات العام بصفقة لم تتجاوز 7.2 مليون دولار، وصفت حينها بالخاسرة، ليظهر لاحقا بأنها الصفقة الأكثر فائدة لصالح الولايات المتحدة الأمريكية، تطلعت الولايات المتحدة الأمريكية لجرينلاند آنذاك لموقعها الاستراتيجي على المحيط الأطلسي، واحتمالية وجود معادن بها، بالإضافة إلى فرص الصيد البحري بها في حينه، وجددت محاولتها لضم جرينلاند عام 1946, إذ عرضت ادارة الرئيس " هاري ترومان " على الدنمارك مبلغ 100 مليون دولار بالذهب مقابل الجزيرة، ولكن الدنمارك رفضت العرض، مؤكدة سيادتها على الجزيرة، وتكمن دوافع الولايات المتحدة في ذلك الوقت في إطار تنافسها مع الاتحاد السوفييتي إثر مآلات الحرب العالمية الثانية، وما أنتجته من نظام عالمي جديد ثنائي القطبية، إذ أن وقوع جرينلاند في موقع مثالي لزراعة رادارات إنذار مبكر في مواجهة أي هجمات سوفيتية على أمريكا الشمالية، وحمايتها من تهديد الصواريخ السوفييتية البالستية التي كانت طور التحديث، يضاف إلى ذلك أن اهتمام الاتحاد السوفييتي بالمنطقة قد ضاعف المطامع الأمريكية بها، يضاف لذلك بطبيعة الحال استشراف الولايات المتحدة الأمريكية لمستقبل الجزيرة واحتواءها على موارد طبيعية هامة، على الرغم من فشل الولايات المتحدة في شرائها، إلا أنها نجحت في إقامة قاعدة " ثول " الجوية بها عام 1951.
تجددت المطامع الأمريكية بالسيطرة على الجزيرة عام 2019، إذ أبدى الرئيس الأمريكي " دونالد ترامب " اهتمامًا بشراءها من الدنمارك، واصفا ذلك بالصفقة العقارية الكبرى وهو الأمر الذي ووجه برفض دنماركي وأوروبي، وبحذر شديد من قبل روسيا والصين اللتين يتصاعد اهتمامها بالمنطقة بشكل مضطرد، لتعاظم أهميتها الاستراتيجية والعسكرية، وغناها بالمعادن مثل اليورانيوم والأتربة النادرة، والتي تدخل في صناعة التكنولوجيا المتقدمة، واحتمال اكتشاف احتياطات كبيرة من النفط والغاز بها، لا سيما في ظل ذوبان الجليد الناتج عن التغيرات المناخية، التي تجعل من مهمة اكتشاف واستخراج تلك الثروات أسهل وأقل تكلفة، كما أن تلك التغيرات المناخية قد تفتح افاقا جديدة لطرق ملاحية جديدة لنقل السلع والخدمات، اضافة إلى أن المنطقة مرشحة لأن تتحول إلى نقطة لوجستية للشحن بين آسيا وأوروبا عبر المحيط المتجمد الشمالي .
في مطلع العام الجاري 2025، أعاد ترامب إحياء أطماعه بشراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك، وكذلك وزير الخارجية الأمريكي، "ماركو روبيو" ، وهو الأمر ووجه من جديد برفض قاطع من قبل الدنمارك التي أعلنت رفع انفاقها الدفاعي داخل حدود الجزيرة، وكذلك برفض أوروبي، وبرفض قاطع من حكومة غرينلاند التي أعلنت عن خطط لحظر التبرعات السياسية الأجنبية والمجهولة المصدر لحماية نزاهتها السياسية قبل الانتخابات المقررة في السادس من نيسان القادم، لا تختلف دوافع ترامب الأخيرة عن دوافعه عام 2019، والمتمثلة بصراع الولايات المتحدة مع الصين وروسيا، لا سيما في ظل إعلان الصين عن مشروعها " طريق الحرير القطبي" الهادف لتقليل تكاليف النقل البحري بين آسيا وأوروبا، وتطلعاتها نحو المزيد من الاستثمار بالجزيرة في مجالات الطاقة والبنية التحتية، وكذلك الرغبة الروسية في تطوير مشروع " طريق بحر الشمال" عبر تطوير واستخدام الممرات البحرية الشمالية لتعزيز التجارة وتقليل زمن الشحن، يضاف إلى ذلك غنى الجزيرة بالموارد الطبيعية، والثروات المعدنية، وإمكانية فتح طرق بحرية جديدة عبرها، يضاف إلى كل ذلك تطلعات ترامب نحو التوسع وتعزيز إرثه الرئاسي، عام 2019, قام ترامب بإلغاء زيارته للدنمارك، وقاطعها نتيجة رفضها لبيع الجزيرة، إلا أن الأمر خلال فترته الرئاسية الأخيرة يبدو أكثر تعقيدا، إذ يبدو أكثر تصميما على ضم الجزيرة نتيجة استشرافه لما تشكله من قيمة استراتيجية على المستويات الأمنية والعسكرية والاقتصادية، والجيوسياسية، وهو الأمر الذي يجعل من كل السيناريوهات محتملة، بما في ذلك التدخل العسكري وفرض السيادة الأمريكية عليها، والذي يبدو سيناريو غير مرجح، لكن لا يجب استبعاده، إذ أن الدنمارك عضوا في الناتو، وسيشكل احتلال جرينلاند انتهاك صارخ للقانون الدولي، ومواجهة مباشرة مع أوروبا، ومع الناتو، التي اتخذت مواقف متشددة من الاحتلال الروسي لأوكرانيا، أو محاولات الضغط الاقتصادي عليها، سواء عبر الاستثمار بها، أو محاولات التضييق الاقتصادي، وهو الأمر الذي يبدو غير مرجح ايضا، إذ أن مستوى المعيشة داخل الجزيرة جيد للغاية، ومستوى الخدمات الاجتماعية التي تقدمها الحكومة للمواطنين مرتفعة نسبيا، كما أنها تحظى بمستويات مرتفعة من الديمقراطية والحريات، ولا تمتلك الولايات المتحدة تاثيراً مباشرا عليها، إذ يبقى السيناريو الأكثر ترجيحا هو أن مطالبات ترامب بشراء الجزيرة، هي تكتيك يهدف إلى تعزيز حضور الولايات المتحدة الأمريكية بها، عبر المطالبة بما هو مستحيل، للوصول إلى تسوية تمكنه من تعزيز وجوده على حساب الوجود الروسي والصيني عليها، انطلاقا من أن أي تسوية تشكل انتصارا للدنمارك مقابل سحب ترامب لأطماعه بشراء الجزيرة، تماما كما هو أسلوب الرأسماليين والإمبرياليين بالعالم.
* رئيس العلوم السياسية/ جامعة النجاح الوطنية
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء