عندما بكت "بائعة الكعك"

كتبت: هديل الغرباوي
في خيام النازحين، ملامح الأطفال أشبه بالاوراق الممزقة،تتماثل على ملامحهم المرهقة ألف رواية ورواية،ليست تلك الروايات التي تخبر عمن فقدت شقيقها أو شقيقتها،إنما عن براءة طفولتهن التي سلبت لتدفن في بيت زوجها.
على أطراف خيمتها البلاستيكية المهترئة، وقفت فتاة تدعى سهيلة "أسم مستعار" تبلغ من العمر 16 عاما، وهي تحمل طفل رضيع،يظن المار إلى جانبها إنه شقيقها لكن عندما تخبئه تحت إسدال ثوب الصلاة لإرضاعه لتخفي ثدييها عن أعين المارة تتيقن حقا أن الطفل ابنها!
سهيلة طفلة لم تتجاوز السادسة عشر من العمر نازحة من شمال قطاع غزة إلى محافظة دير البلح وسط القطاع مع عائلتها المكونة من ثمانية أفراد،تقول سهيلة والدموع تنهمر من اعينها:"سرقوا مني أحلامي وطفولتي بزواجي من ابن عمي،كنت اريد استكمال تعليمي الدراسي واللعب مع صديقاتي،لكنهم منعوني لانني أصبحت امرأة متزوجة وحامل".
"اتفق والدي واعمامي على تزويجي لابن عمي الذي يكبرني فقط بعامين والذي يعمل بائع خضروات متأملين أن يحصل العريس على خيمة إماراتية أو مساعدات إغاثية كثيرة لأننا متزوجين حديثا وفي حرب الإبادة وعلى أمل الحصول على شقة سكنية في حين بدء إعادة الاعمار وبذلك يكون قد تخلٌص عمي من عبء تزويج ابنه إلى جانب عدم وجود مصاريف الزواج الباهضة من حفل زفاف و وليمة غذاء وشقة وأثاث ومهر، حيث تم الاتفاق فقط بين ابي واعمامي على ان يتم شراء خاتم وبعض الملابس أما المهر فقد تم الاتفاق على دفعه عند انتهاء الحرب وللأسف لم يبدي والدي ووالدته اعتراضهم سامحهم الله" تتابع سهيلة حديثها لنا.
لا تزال مجتمعاتنا العربية وبعض البلدان النامية تغرق في مستنقع دفن الفتيات في مقبرة الزواج المبكر،وتعريضهنٌ لإنتهاكات نفسية و صحية وإجتماعية لا حصر لها،ولأن حرب الإبادة المستمرة منذ أكثر من عام،أوقفت عمل المؤسسات الرسمٌية في الإحصاء والمراقبة،إلا أن متخصصين قانونيين واجتماعيين يلاحظون حالات متزايدة في تزويج الفتيات في غزة،في ظل ظروف الحرب .
سهيلة الصغيرة كانت جميلة المحيا بيضاء البشرة،طويلة القامة،ممشوقة القوام وقد شاءت الاقدار أن يتكوم كل ذلك الجمال البشري داخل أثمال بالية بفعل الحرب،تصف سهيلة زواجها قائلة:"تزوجت وأنا لا أعلم أي شيء عن الزواج ففي أول ليلة زفاف لي قال زوجي لا تعترضي واغمضي عيناكي لأنك إن تمنعتي سأقوم بتطليقك، نزفت وصرخت كثيرا بعد ليلة زواجي الأولى حتى أصبت بفقر دم مزمن ومن ثم حملت بطفلي الأول دون مراعاة طفولتي وصغر سني".
يعرٌف الزواج المبكر على أنه زواج رسمي أو ارتباط غير رسمي بين طفل تحت سن الثامنة عشرة ،وشخص بالغ أو طفل أخر، وبالرغم من كل محاولات الحد من هذه الممارسة في مختلف أنحاء العالم،إلا أنها لا تزال واسعة الانتشار في المجتمع الفلسطيني وخصوصا في حرب الإبادة،لن تختلف قصة ياسمين كثيرا عن قصة سهيلة..
بعد أن نصبت " أم أحمد" خيمتها على تخوم بلدة "السوارحة" في محافظة الزوايدة،غامت الدنيا في ناظريها وباتت أضيق من خرم الإبرة تلتقط أنفاسها اللاهثة في مشقة،كما أنها أصبحت عصبية،حادة المزاج،تثور لأتفه الأسباب جراء مآلاتها المحزنة وعيشتها الضنكة وضيق ذات اليد ناهيك عن حياة الخيام القاسية خاصة وأنها فقدت زوجها تحت ركام منزلهم المدمر في مخيم الشاطئ بدايات الحرب،تاركا لها عدد من البنات، فقد حرمت المسكينة من انجاب الأبناء الذكور لذا كان البعض يناديها " يا أم البنات " !
وعلى الرغم من أن السيدة " أم أحمد" قد نشأت في مخيم الشاطئ للاجئين الفلسطينيين وشبت وترعرعت في أزقته الرطبة الضيقة بعد أن أجبر أسلافها على النزوح عن مدينة عسقلان عقب نكبة 1948،إلا أن التباين كان شاسعا بين مخيم الشاطئ الدائم ومخيم السوارحة الطارئ والذي يخشى النازحون تحوله من مخيم طارئ إلى دائم !
تقول أم احمد لنا وهي تتنهد بين الفينة والأخرى:"ورغم محاولاتي الكثيرة كسر نفسي واجبارها على قبول الواقع المؤلم إلا أنني لم اتصالح مع ذاتي ولم اتآلف مع المخيم الطارئ مثلي مثل سائر النازحين في المخيمات الطارئة التي لا تليق بآدمية البشر وكوني بلا معيل فقد اعتمدت اعتمادا مطلقا على المساعدات الإغاثية والتي لولاها لأضطرت إلى التسول بل والموت جوعا، ولكثرة الأعباء وصعوبة الحصول على أبسط مقومات الحياة فقد قمت بتوزيع الواجبات اليومية المعتادة على بناتي الست".
"إذ أسندت إلى أصغر بناتي" سمية " مهمة الوقوف في طوابير الماء،وابنتي " دلال " مهمة الوقوف في طوابير التكايا،أما إبنتي " نجوى " فقد أسندت إليها مهمة جمع الكراتين والحطب لإشعال النار ، أما " سمر " فقد كان واجبها تنظيف الخيمة ومحيطها ، فيما تكفلت " نداء " بالعجين ، أما إبنتي البكر " ياسمين " والتي كانت في الخامسة عشر من العمر والتي برعت في صنع " الكعك المنزلي والفطائر " فقد أسندت إليها مهمة صنع الكعك وبيعه سواء داخل أو خارج المخيم ، وعلى الرغم من ضآلة العائد المادي من بيع الكعك إلا أنه كان ضروريا لنا"تتابع أم احمد حديثها.
ياسمين الطفلة كانت جميلة و ذات جاذبية خاصة واطلالة ملفتة للنظر استمالت أفئدة غالبية الذكور الجائعة داخل المخيم وخارجه، فورة بائعة الكعك ونضج أنوثتها قبل أوانها، جعل أمها تفكر في أشياء أبعد من الشواقل القليلة التي كانت تربحها من بيع الكعك ،خاصة وأن صغيرتها بدأت تشكو لها من نظرات الشبان النهمة التي تنهش جسدها الغض في الذهاب والمرواح ومعاكساتهم الدائمة لها!.
تصف أم احمد معاناتها بعد تزويج طفلتها:"في ذات الوقت كانت تمتدح مندوب المخيم " أبو حذيفة " وهو رجل أربعيني، مظهره الخارجي وسلوكه يوحيان بالورع والمغالاة في التدين، إذ كان ذو لحية كثيفة وجلابية قصيرة، مواظب على أداء الصلوات في مواقيتها ، لسانه رطب بذكر الله ، دائم التسبيح والتكبير ،كما كان ميسور الحال وله عدة أملاك ومحلات تجارية في منطقة جباليا شمال القطاع واضطر للنزوح عن الشمال هو وأسرته المكونة من خمسة أفراد شملت زوجته وأبناءه".
إذ كان " أبو حذيفة " يحسن معاملة " ياسمين "، يكرمها وبلاطفها ويخفف عنها وطأة الأيام الثقيلة ويذلل لها الصعاب،كما كان الأربعيني سخيا في شراء الكعك من الصغيرة أيام الكساد، كما كان يختص أسرتي بمعاملة خاصة تختلف عن المخيم اكمله حيث أغرقنا بالكابونات والسلات الغذائية والقسائم الشرائية ولم يجعلنا نحتاج أحد"تتابع أم احمد.
ورغم فجوة العمر بين بائعة الكعك إبنة الخمسة عشر ربيعا وأبي حذيفة الأربعيني ، إلا أن ثمة علاقة دافئة وألفة غير معتادة دبت بين الطرفين ،أخطأت الصغيرة فهمها وتقديرها لبراءتها وتفكيرها الضحل الساذج وتجربتها المتواضعة في الحياة !
تتابع أم أحمد:"طفلتي ياسمين كانت أحوج ما يكون إلى الإشباع الأبوي بعد استشهاد والدها وتلتمس حنان وعطف الاب أو لمسة الأخ الأكبر الذي تراءى لها في سلوك الاربعيني الحاني والذي كانت له مآرب أخرى نبعت من رغبته المستعرة في تجديد شبابه وإشباع حاجاته العاطفية ولكن بعد أيام قليلة رفعت الأستار عن الحقائق ،إذ سارع أبو حذيفة إلى طلب ياسمين كزوجة ثانية له على سنة الله وكتاب رسوله وقد تعهد لي أمام الأشهاد بحسن معاشرة الصغيرة واكرامها واسعادها كونه ميسور الحال فذلك سيضمن لاسرتي وبناتي ولزوجته الصغيرة ياسمين حياة كريمة وينقلنا من حياة البؤس والشقاء إلى السعادة والرغد والهناء".
لم تنم " أم العبد " تلك الليلة وهي تفكر في طلب " أبي حذيفة "ورغم عدم قناعتها إلا أن جملة من الأسباب اعتبرتها موضوعية ورجحت قبولها للطلب أبرزها مخاوفها المشروعة من المستقبل المبهم والضياع وعدم قدرتها على الإنفاق على بناتها إذ أن غياب الأب هدم جدار الستر الذي كانت تحتمي به أسرتها المقطوعة من الشجرة و" ظل راجل ولا ظل حيطة "،ناهيك عن أن القيم الأخلاقية للمجتمع بدأت تتهاوى جراء تفاقم الحاجات والعوز والفقر المدقع والحياة القاسية، فقد تفشت الجريمة وانتشرت السرقات وكثرت الحكايات التي تناولت الزواج العرفي والإغتصاب وجرائم الشرف !
ورغم بكاء بائعة الكعك ودموعها السخية وتوسلاتها وصراخها الذي شق سكون تلك الليلة المعتمة ورفضها المطلق للإقتران بأبي حذيفة الذي كانت ترى فيه والدها فقط إلا أن أمها أصرت على تزويجها منه، وفي أجواء باهتة خلت من مظاهر الفرح وطقوس الزفاف المعتادة ،انتقلت ياسمين من خيمة الأم الممزقة إلى خيمة " أبي حذيفة " ومن بسطة الكعك إلى فرن الطابون!.
تقول الطفلة ياسمين لنا وهي تستذكر زواجها:"وفي احدى غرف مستشفى " شهداء الأقصى " بدير البلح , تم انتداب مأذون شرعي من المحكمة الشرعية لعقد القران وكانت الإجراءات سريعة وخاطفة جراء الزحام الشديد والحالة الغير مستقرة ،إذ أهمل المأذون الشرعي سؤالي عن دموعي المتساقطة والسن القانونية،إلى جانب معاملة زوجته الأولى السيئة للغاية معي حيث انها تطلب مهام شاقة للغاية مثل إعداد ثلاثين رغيفا بشكل يومي وفي احدى المرات قام زوجي بضربي ضربا مبرحا لأنه قام بإعطائي مبلغا زهيدا من المال لاشتري به خضراوات ولكنني عند الذهاب إلى السوق قمت بشراء البسكويت والفوشار لأنني وجدته بعد انقطاع في الأسواق".
لم يزل الفضول يستهوي قاطني المخيم ويسعون لتقصي الأخبار عن وقائع حياة الأربعيني وبائعة الكعك التي باتت مثيرة للشفقة بل ووجدها البعض مادة للتهكم والسخرية تبدد ملل النازحين، فقد اعتاد " أبو حذيفة " ضرب عروسه الصغيرة لتصرفاتها الطفولية، فلم تزل الصغيرة تمشط شعر دميتها وتهدهدها بعد أن تعرضت للإجهاض عدة مرات لعدم اكتمال نموها البيولوجي، كما شوهدت وهي تلهو مع أطفال المخيم وتلعب الحجلة وصنع الطائرات الورقية ،كان يعاقبها لأنها لا تزال تتمسك بطفولتها رغم أنها كبرت رغم أنفها وتحولت إلى ممسحة في خيمة الأربعيني !
تداعيات خطيرة
في السياق نفسه تعقب مي عطية، الدكتورة في علم النفس، قائلة:"الزواج المبكر وزواج القاصرات زاد بشكل كبير جدا في حرب الإبادة نتيجة عوامل عدة منها النزوح القسري وانقطاع التواصل بين المحافظات الشمالية والجنوبية وعدم القدرة على عودة السكان إلى أماكن سكناهم،إلى جانب انهيار الاقتصاد الفلسطيني في قطاع غزة بفعل الحرب ،حيث لجأت الكثير من العائلات الغزية لتزويج بناتها القاصرات من أجل التخفيف من عبء الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها،كما أن استشهاد وفقدان العديد من الإباء والابناء الذين كانوا يعيلون اسرهم و الاكتظاظ داخل الخيام دفع الكثير من الأهالي لتزويج بناتهم حتى وإن كانوا أعمارهم مبكرة".
"السبب الرئيسي لازياد حالات الزواج المبكر هو انقطاع التعليم فقد كانت تذهب الفتاة يوميا إلى مقاعد المدرسة أما الان فهي تشكل عبئا داخل الخيمة بالإضافة إلى وجود عدد كبير من النساء الارامل والمنفصلات التي ليست لهن معيل وعندما يأتي شاب لخطبة ابنتها توافق الام دون تفكير ظنا منهم انه سينتشل ابنتها من الفقر وينتشل عائلتها واخوتها أيضا،عندما يتقدم أي شاب لخطبة أي فتاة تقوم العائلة المحيطة من الاعمام والاخوال بمحاولة التأثير على عقل الفتاة وذلك بمحاولة ترغيبها بالعريس بأنه ميسور الحال وسوف يشتري لها الحاجيات وبذلك توافق سريعا لأن العقل لديها غير مكتمل نموه وليست ناضجة فكريا وجسديا ونفسيا"تتابع عطية.
تختتم عطية حديثها:"زواج القاصرات له تداعيات صحية ونفسية وجسدية واجتماعية كثيرة على الفتيات ،خصوصا أن هناك الكثير من الفتيات القاصرات لم يكتمل جهازها التناسلي بعد ولم يكن قادرا على الحمل والولادة إلى جانب قلة الوعي الثقافي الجنسي حتى تستطيع التعامل في الحياة الزوجية، تزويج القاصرات هو ظلم واقع عليهن ومن الممكن أن تواجه حياة زوجية معنفة مثل أن تضرب من زوجها أو عائلته،نحن كمؤسسات نسوية واخصائيين نقوم بمواجهة هذه الظاهرة بعد انتشارها في الحرب وذلك عبر عقد ورش تثقيفية ومحاولة زيادة الوعي عن طريق عقد جلسات توعوية للنساء والرجال وللمراهقات والصغار وذلك عبر تعزيز الثقة بالنفس ورفع قدرة التفكير الناقد لهم وتعزيز الصمود للفتيات المراهقات و تعزيز حقوقهم وواجباتهم،من الممكن أن يقلل ذلك من نسب الزواج المبكر لكن لا يمنعها!"
القانون لا يجرم
ومع عدم وجود قوانين تجرم تزويج القاصرات بات أمر حماية الصغيرات من انتهاك طفولتهن و إلحاق الضرر النفسي والجسدي بهن،أمر صعب دون الضغط لتعديل القوانين التي تحد من التزويج المبكر.
فقد أكد المحامي محمد أبو الهليس :"عدم وجود نص قانوني يجرم التزويج المبكر وكذلك عدم وجود حماية قانونية للفتاة بهذا الخصوص،حيث يتم تطبيق قانون حقوق العائلة في المادة"5"على أن يكون سن الخاطب ثمانية عشر سنة فأكثر وسن المخطوبة سبع عشرة سنة فأكثر،ولكن جاءت المادتين السادسة والسابعة من القانون نفسه ليضعا استثناءا خطيرا على المادة السابقة،حيث تنص المادة السادسة على"إذا ادعى المراهق الذي لم يتم الثامنة عشرة من عمره البلوغ فالقاضي أن يأذن له بالزواج إذا كانت هيئته محتملة،حيث طالبت كثير من المؤسسات النسوية والدولية بضرورة تعديل نصوص هذه المواد التي تنتهك حماية الفتيات الطفلات ولكن بقيت التعديلات حبر على ورق ولم تنفذ،وبالطبع أن أؤيد تعديل نصوص القانون لأن النمو الفكري للفتيات يكون غير مكتمل ونظرتها للزواج طفولية".
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء