مفقودٌ يحاول العودة إلى البيت

كتبت هناء أسـامة أحمد
ترتجف يدا أبي كلما جئنا على ذكر محمد، يشيح وجهه بعيدًا ويغيب في ذاكرته، ربما يعود إلى الحدث الذي يردده بلا انقطاع والذي ظلّ ناقصًا لا يعرف نهايته، ينتظر اتصالًا لا يجيء منذ عام، يتابع أخبار المفقودين العائدين، يقرأ أسماءهم واحدًا واحدًا، يرتعش قلبه حين يقرأ اسم محمد، رعشة أملٍ لا تستمر إلا لثانية حين يعرف أنه ليس الولد الذي ظلّ يركض في شوارع المخيم يحاول العودة إلى البيت.. حينها يسألنا، يسأل نفسه، أين محمد؟ أين اختفى ذلك الرجل الذي استطاع النجاة من رصاصتين؟ وكيف لا يتمكن من العودة إلينا؟
أحيانًا حين أكتب عن أخي محمد أشعرُ أن كل ما أكتبه هو كتابةٌ في وداعه، هل هذا رثاء يا أخي؟ هل تتوقف الآن بعد عامٍ عن ركضك المستمر للعودة إلى البيت؟ هل تستسلم؟ هل تنتهي الحرب ولا نعرف أين أنت؟ وفي أي مكانٍ تحديدًا؟ وماذا أقول حين يسألني أحدٌ عنك، هل أنت شهيدٌ ينتظر شهادة وفاته؟ أم لا تزال مفقودًا يحاول العودة إلى البيت..
محمد أسـامة أحمد، من مخيم المغازي والمفقود منذ السابع من يناير 2024، قبل أكثر من عام.. 35 عامًا وحكاية تظلّ مفتوحة على كل الاحتمالات، عندما جاء صوته مغمغمًا لاهثًا يخبرنا أنهم دخلوا عليه البيت، وانه استطاع القفز عن السور، وهم يطلقون عليه النار.. رصاصتان اخترقتا الجدار، كان من الممكن أن تخترقا جسده.. أخبرنا أنه يركض حافيًا في شوارع المخيم.. أذكر صوته وأتخيل شكل ركضه نحو النجاة، هل تعبت من الركض يا محمد؟ هل شعرتَ أن قدميك ستنفصلان عن جسدك؟ وركبتيك بالكاد تحملانك؟ هل سمعت قلبك يخبط بجنون وكتمت صوت أنفاسك حين اختبأتَ بين شجرات الزيتون، وفي داخلك عدم فهمٍ عميق لكل ما حدث خلال ربع ساعة؟ كان الاتصال مشوشًا وكنتَ عاجزًا عن قول جملٍ كثيرة، كان يناديك أبي بصوتٍ عالٍ: " محمد، يا محمد.. سامعني؟ تعال علينا.. يا محمد" كان صوت أبي يرجوك، روحه تنتحب.. كان بوده لو يأتي ليحملك للنجاة.. أصرّ بابا عليك أن تأتي إلى المكان الذي نزحنا إليه بعد اجتياح المخيم، لكنك لم تسمع، آخر ما أخبرتنا إياه أنّ قناصة الاحتلال فوق سطح البيوت، ثم كان هنالك صمتٌ وانقطع الاتصال الأخير.. حاولنا الاتصال بك، توهّمنا أننا سمعنا صوت طلقاتٍ متجهة نحوك، تخّيلنا جسدك يغرق في الدماء فيما ترتوي منك أشجار الزيتون، رأيناك تحتضن الأرض وتحاول أن تلتصق بها، ورأيتُ بابا يخفي وجهه وراء يديه الكبيرتين، ويبكي، صار رجلًا قادرًا على البكاء ويردد بيأسٍ: راح الولد.. راح الولد.. ظلّت هذه الجملة تترد في المكان بلا انتهاء.. سمعتها مثل صدىً تروح وتجيء، تزورني في أحلامي، وتلاحقني عندما أحاول أن أنسى أنّ لي أخًا لا يزال يركض.. منذ ذلك اليوم، منذ اليوم الأول لاختفائك بدأنا رحلة البحث عنك.. خرج أبي وإخوتي للبحث عنك في المستشفيات، بين الأجساد مجهولة الهوية.. يخبرني سلمان ( أخي الأصغر) عن ذلك يقول لي: " لا يمكن نسيان تلك الوجوه أبدًا، مرتخية.. غائبة، بفمٍ منفرجٍ قليلًا كأنّ هناك كلماتٌ عالقة يرغبون في قولها".. لم يسمحوا لأبي بالكشف عن الجثث، كان يقف على بعدٍ مناسب ليرى أنّ هذا محمدًا ولده أم لا.. كانت تلك مهمّة سلمان وأحمد وشرف بالتناوب، ينظرون من بعيدٍ إلى الكفن الأبيض، يجلسون حول رأسه.. يمدّون يدًا مترددة ناحية رأس الشهيد، ينظرون إلى بعضهم نظرات مستفهمة، يفكوّن العقدة بحذرٍ، يمنحون ذلك الجسد النائم، قليلًا من نور قبل أن يذهب إلى العتمة. جسدٌ كامل بقدمين كاملتين وذراعين ينتظر وداعًا من العائلة وعناقاتٍ أخيرة.. يتساءلون بينهم وبين أنفسهم كيف يكون هذا الجسد الذي سلبت منه الحياة هو ذاته محمد؟ كيف يصبح غير قادرٍ على انتزاع القماش من فوقه والخروج بطريقة مسرحية يقول: "مرحبًا، هل تصدقون أنني متّ"؟ في الأيام التي تلت غيابك، كنّا نبحث هناك، في خيمة الشهداء مجهولي الهوية وفي كل مرة لا نجدك فيها يرتفع منسوب الأمل.. بحثنا عنك بين الأجساد التي تحولت كُليًا إلى عظام، يقول أبي أنّه لن يتوه عن عظمة قدمك وأنه يعرفها جيدًا، لكننا ومع ذلك لا نجدك.. نتابع، نسجل اسمك وبياناتك، نعرض صورتك البهية وأنت تضحك، شابٌ مفعم بالحياة، بعينين خضراوين وجبينٌ واسع مثل سهل.. وشعر بلون القمح ذهبي، نعرضها على الذين يبحثون عن مفقودين مثلك.. نسألهم السؤال ذاته الذي صار يفيض من أعيننا، ونراه في كل مكان: هل رأى أحدٌ منكم محمدًا؟ لم تكن هناك إجابة، كانت مجرد هزّات رأسٍ نافية، الكل مشغول بالبحث عن أولاده.. وقد بحثنا، كنا نركض لمستشفى شهداء الأقصى ننتظر المعتقلين العائدين من هناك، نقحم صورتك في وجوههم.. نكرر اسمك على مسامعهم، هل رأيتموه في سديه تيمان؟ هل كان معكم في عوفر؟ هل سمعتم باسمه في العد؟ الإجابة ذاتها منذ عام، لم يرك أحد، لم يسمع عنك أحد.. أحيانًا حين أسمع عن عدد المفقودين الذين لا نعرف هل هم في المعتقل، أو لا زالوا تحت الركام؟ أخاف.. أحد عشر ألف مفقودٍ، بأحد عشر ألف حكايةٍ مختلفة، بمراتِ بحثٍ لا تعدى ولا تحصى.. في اتصالاتي الكثير على الصليب الأحمر، والتي بدأتُها منذ أيام فقدانك الأولى، تقول لي الموظفة: أنها بالفعل لا تملك أية معلومة جديدة، ليس عن محمدٍ وحده بل عن آلاف المفقودين مثله.. كل الذي تستطيع فعله، هو سماع حكايات المفقودين وتسجيل بياناتهم وإرسالها حتى يتم التأكيد على وجود هذا المفقود أم لا".. أتخيّل في مكالماتي الطويلة معها أن ثقبًا أسودًا ابتلعك ورفاقك.. ماذا يعني أن يختفي أخي من العالم؟ ماذا يعني أن يكون هناك أحد عشر ألف مفقودٍ يختفون فجأةً هكذا.. ولا نملك معلومة واحدة عنهم، المعلومة الوحيدة التي نرغب في معرفتها: هل هم على قيد الحياة فقط؟
تتوالى الاتصالات، رنين الهاتف حين لا يجيب أحد يثقلني، يشعرني ببرودة غريبة في معدتي أعيد الاتصال.. موظفة جديدة، أخبرها الحكاية من جديد، أتلوها على نفسي" ألو.. أنا هناء أريد أن أبلغ عن مفقود، أخي محمد.. مرّ على غيابه 90 يومًا، 120 يومًا، 250 يومًا، 365 يومًا، عامٌ كامل هل هناك معلومات ؟ يأتي الرد كما كل مرة صافعًا بعرض الحائط وجه الأمل ووجوهنا جميعًا.. تخبرني أنه سيعود ربما. تعطيني الأمل ثم تأخذه مني بطريقةٍ ما.. تحاول أن تسألني عنك، عن وجهك، وعن علاماتك المميزة.. أقول لها عينيك خضراوين مثل زمرد، ولك عظمة زائدة في قدمك اليسرى، وجرحٌ قديم على أنفك نسيتُ سببه وأنك كنتَ تلعب كرة القدم وتسدد ضربات غالبًا ما تتحول إلى أهداف، أنهي تلك الاتصالات بيني وبين الموظفات بجيوش من الابتهالات المتبادلة بعودتك..
حين أجلس أنا وأبي نتحدث عنك يسألني: " هل من الممكن أن يعود" ؟ يجرحني سؤاله.. أقول باندفاعٍ حتى لا يسقط في عتمة السؤال: " طبعًا، إنه فقط في مكانٍ ما " لكن الجملة تتبخر سريعًا في الهواء، ماذا يعني ان تكون في " مكانٍ ما" لا نعرفه؟ هل سمعت عن جملةٍ لا تصدّق نفسها؟ ثم نجلس صامتين، لا ينظر أحدنا إلى الآخر، نتأمل الفراغ الهائل الذي أحدثه غيابك في بيتنا، وأرواحنا..
يا محمد يطلّ علينا وجهك، نراك تلّوح لنا من بعيد.. تقف على رأس الشارع، تنظر إلى كل ما حولك من ركام لا تصدق كل ما جرى، ثم تدير ظهرك، نناديك، فلا تلتفت.. تذهب وتترك وراءك عائلة وحكاية ناقصة عمرها عامٌ كامل، ووجوه تترقب انتهاء الحرب وفتح أبواب المعتقلات جميعها ونراك تعود إلينا.. وهذه المرة نقفُ جميعنا ننتظرك على عتبة البيت الذي حاولت مرة بعد مرّة العودة إليه.
وكل يوم وحتى تعود هنالك هذا السؤال: أين محمد؟
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء