الإسلام والدولة المدنية

كتب أنس الكسواني: الدولة كيان معنوي ينتج بعقد اجتماعي بين الشعب والسلطات الحاكمة بحيث يتم تنظيم الحقوق والواجبات وفق توجهات المجتمع وسلوكه المتفق عليه جمعياً بين عموم الناس، ويمكن القول بان الدولة هي ابنة المجتمع التي تتشكل وفق معتقدات المجتمع وسلوكه..
اول دول الاسلام هي تلك التي اقامها محمد صل الله علي وسلم في المدينة المنورة وامتد رحاها باختلاف تشكيلاتها بين الأمويين والعباسيين والعثمانيين (مع الإقرار بان وراثة الحكم مرفوضة في الاسلام) حتى شمل ثلث العالم القديم، وفي تلك المرحلة لم تكن الدول قد عرفت الجمهوريات المدنية بعد، بل كانت كل الممالك والدول يحكمها ملوك واباطرة من العسكر المقاتل، فمن اشهر اباطرة الرومان يوليوس قيصر وقدام ملوك اليونان كالاسكندر العظيم الى ملوك فارس والصين القدماء فقد كانوا جميعهم محاربين يقودون جيوشهم في المعارك، وتستمر الحكاية على حالها الى تاريخ الاسلام الحديث فالخلفاء الاربعة فهارون الرشيد وصلاح الدين الايوبي وألدّ اعدائه ريتشارد ملك انجلترا فمحمد الفاتح جميعهم كانوا يقودون جيوشهم في المعارك اي ان جميع الدول كانت دول عسكرية، وكانت السلطات العسكرية في البلاد هي من تحدد نظام الحكم وشكله، حتى محاولات الرومان القديمة من خلال (ديمقراطية روما) من خلال مجلس الشيوخ كانت تؤدي الى حكم إمبراطوري العسكري في النهاية..
ومع تطور مفهوم الحقوق والدولة وحقوق الانسان في أوروبا (بشكل منفصل عن الممالك المشرقية) بالمنظور البشري الخالص والثورات الشعبية التي اطاحت بالأنظمة العسكرية؛ وحركات الإصلاح الديني التي فصلت بين الكنيسة الكاثوليكية في روما والممالك الاوروبية في اوروبا ظهر مصطلح الدولة المدنية كرديف للعلمانية التي تعني فصل الكنيسة عن الدولة، فالدولة المدنية لا علاقة لها بفكرة فصل الدين عن الدولة "اي دين" بل هي تتعلق بفكرة حكم المدنيين للدولة، اي ان تكون السيطرة على القرار المصيري للمدنيين ومن المدنيين لا للعسكريين غير المنتخبين، ومع تزامن ظهور هذه المصطلحات مع الاصلاح الديني الذي شهدته اوروبا خلال القرن السادس عشر الميلادي كما ذكر أعلاه والذي أدى الى تراجع دور الكنيسة الكاثوليكية في ادارة دول وامارات اوروبا، اختلط الامر لتصبح عبارة الدولة المدنية هي بالضرورة الدولة العلمانية، حتى ان مصطلح العلماني تم اسقاطه على الاديان في العصر الحديث،، ومع الموروث القديم والاستعمار الغربي لدول المشرق ومحاولة اسقاط التجربة الأوروبية غصباً على المسلمين والعرب ظهر لدينا من يعتقد ان فصل الدين الاسلامي عن الدولة هو الحل للوصول الى الدولة المدنية نتيجة خلط المفاهيم القديمة الخاطئة ببعضها البعض، مع العلم ان العديد من الدول العلمانية وحتى الملحدة تطبق المفاهيم الاسلامية في انظمة حكمها كالنرويج تحتل اولى المراتب في تطبيق احكام الشريعة الاسلامية في انظمتها الحاكمة حتى دون ربطها بالشريعة الاسلامية كمسمى، فمن اطعام المسكين وحفظ حق اليتيم ونصرة المظلوم والقصاص من الظالم، ومجانية التعليم والعدل بين الناس دون الالتفات الى الدين او العرق نرى ان تعاليم الاسلام في عمقها هي تعاليم تتماشى بسلاسة مع المفاهيم المدنية والحديثة، فيمكن بسهولة ان تكون الدولة الاسلامية دولة مدنية، اي يحكمها المدنيون، تطبق مبادئ الشربعة لا شكلها، تعدل بين الناس كلٌ حسب معتقده، لا اكراه في الدين، دولة لا قوي فيها الا الله، يهدف اهلها الى اعمار الارض وخلافة الله فيها تطبيقاً لقوله تعالى "اني جاعل في الارض خليفة"..
الدولة الاسلامية الحديثة ممكن ان تكون بسلاسة وسهولة دولة مدنية يحكمها مدني منتخب تخضع اجهزة الدولة بما فيها الجيش لحكمه وتكون في ذات الوقت تطبيق لمبادئ الشريعة الاسلامية على شكل الدولة الحديث الذي وصلت له البشرية وانجزته بنجاح في اماكن اخرى، ولا علاقة لقطع الاعناق او فرض شكل لباس معين على الناس او سبي الحرائر من النساء بالإسلام، فالدولة الاسلامية هي التي تنشأ مرتبطة بفكرة أمة الاسلام، تطبيقاً لقوله تعالى كنتم خير امةٍ أخرجت للناس، لماذا؟ لانكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، هذه هي الدولة الاسلامية، دولة تطبق مبادئ الله لإعمار الارض وايصال اهلها الى الجنة في رحلة حيواتهم، دولة لا غني فيها الا الله، ومن ملك المال فيها له ما للفقير وعليه ما على الفقير، والفقير فيها له حق في ذمة اخوته من البشر، دولة لا كريم فيها الا الله، والمكرم فيها هو كذلك بخلقه وعمله، دولة يحكم فيها من هو أهل، يبسط العدل الالهي بين البشر، دولة تعطيك الاحساس بمعنى ان تكون غداً من اهل الجنة..
دولة الاسلام هي مملكة الله على الارض ومعنى خلافة لبشر لله في الارض، فالإسلام في طابعه احساس وشعور، ضمير وطريقة عمل، لا دخل للشكل او اختلاف المعتقد فيها، فسيدنا محمد صل الله عليه وسلم يقول "ان الله لا ينظر الى صوركم واموالكم، بل ينظر الى قلوبكم واعمالكم"..
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء