الذكرى السابعة بعد المئة للوعد المشؤوم .. من ديفيد لويد جورج إلى آرثر جيمس بلفور

31.10.2024 10:01 AM

 كتب أسامة خليفة: يحيي شعبنا الفلسطيني الذكرى السابعة بعد المئة لوعد بلفور المشؤوم، ببالغ الأسى والغضب على الاستعمار البريطاني باعتبار وعدهم السبب الأول لكوارث متلاحقة حلت بشعبنا عبر ما يزيد عن قرن من الزمان، مآسي وحروب ومجازر وتهجير، ما لم يشهده شعب في التاريخ البشري تحمّله شعبنا الفلسطيني، ومازال يتحمل، والآن ومنذ أكثر من سنة يتعرض لحرب إبادة جماعية في الضفة والقطاع على مرأى ومسمع العالم الذي بقي ساكناً صامتاً، نستذكر هذا العام المراحل الأربعة التي مر بها هذا الوعد، من الحوار، إلى الإصدار، إلى الاستعمار، إلى قيام الكيان.

قصة الوعد لا تبدأ بإصداره في 2 تشرين الثاني عام 2017، إنما بدأت بحوارات بين القوى الاستعمارية والحركة الصهيونية، واختتمت بالتحقيق الفعلي للوعد الذي عبّر عن تعهد قوة استعمارية عظمى هي بريطانيا والتزامها بتحقيق أهداف الحركة الصهيونية، كتتويج لمفاوضات واجتماعات ونقاشات مطولة بين الطرفين. 

لقد مرّ الوعد بمراحل متتالية، قبل وما بعد الإعلان عنه من قبل وزير خارجية بريطانية وقتذاك اللورد آرثر جيمس بلفور، امتدت مرحلة صياغته بالشكل النهائي لسنوات، بسبب الخلاف حول «وطن قومي لليهود»، أم «دولة لليهود»، ابتدأت بلقاءات وحوارات ونقاشات، ترأسها عن الحكومة البريطانية ديفيد لويد جورج الذي كان مستشار الخزانة وعضو الاتحاد الصهيونيّ لبريطانيا العظمى وإيرلندا، ثم أصبح وزيراً للخارجية في مايو/أيَّار 1915، فعيِّن الصهيوني حاييم وايزمان مستشاراً علميّاً للوزارة في سبتمبر/أيلول 1915، حيث دار النقاش بين الوزير ومستشاره حول كيان يهودي، وعندما أصبح لويد رئيساً لمجلس الوزراء البريطاني خلال الحرب العالمية الأولى، صدر في عهده وعد بلفور، وصف ديفيد لويد جورج في مذكّراته هذه اللقاءات بأن الإعلان جاء بعد العديد من المناقشات المطولة.

أولى النقاشات كان موضوعها أين تريد الحركة الصهيونية إنشاء دولتهم؟. اقترح ديفيد لويد جورج العمل على منطقة أوغندا، لإقامة كيان يهودي على أرضها، بعد ذلك غير رأيه، واقتنع بأهمية فلسطين للتاج البريطاني، ونوقشت مسألة مستقبل فلسطين، وكان مارك سايكس قد كتب في رسالة خاصة إلى زعماء الحركة الصهيونية: «الصهاينة الآن هم مفتاح الوضع» لحسم مسألتي: فلسطين، وتقسيم المنطقة حسب اتفاقية سايكس بيكو. في البداية دخل مارك سايكس بصفته الشخصيّة في مناقشات مع القيادة الصهيونيّة، في كانون الثاني/ يناير من عام 1917 بدأت المفاوضات الرسمية البريطانية-الصهيونية حين كُلِّفَ مارك سايكس من قبل الحكومة البريطانية بمسؤولية شؤون الشرق الأوسط، ثم دارت نقاشات الحلفاء حول الانتداب على فلسطين وإنشاء وطن قومي لليهود، وخاصة بين فرنسا وبريطانيا.

قادة الحركة الصهيونيّة وداعميهم البريطانيين أكدوا ضرورة ضم فلسطين إلى الإمبراطورية البريطانية، كما أكدوا على ضرورة إصدار إعلان عن الحكومة البريطانية يتضمن الرسالة أو الوعد أو التعهد أو الالتزام أو مشروع الإعلان البريطاني صيغة توصل إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين دون الصراحة والوضوح إلى ما ستؤول له الأمور.

في لقاء عُقد في 19 حزيران/ يونيو 1917، طلب بلفور من الزعيمين الصهيونيين اللورد روتشيلد ووايزمان تقديم صيغة للإعلان، أعدَّت لجنة المفاوضات الصهيونية مسوَّدة تحتوي على 143 كلمة، لكن وزارة الخارجيّة البريطانية أُعدت مسودة مختلفة، تتحدث عن «ملاذ لضحايا الاضطهاد من اليهود». وقد لقيت هذه المسودة مُعارضة قويّة من الحركة الصهيونية، فأُهملت، وبعد مناقشات موسعة، أُعدَّت مسودة أخرى، وقدمت إلى مجلس الوزراء للنظر فيها بشكل رسميّ، هذه النقاشات حول المسودة دارت في جهتين:

الأولى: على مستوىً عالٍ بين السياسيين البريطانيين وزعماء الحركة الصهيونيِة، استمرت لسنوات وحضرها إلى جانب روتشيلد وحاييم وايزمان والسيد بلفور، السير مارك سايكس، ناقش سياسيون بريطانيون زعماء الحركة الصهيونيّة مستجدات الحرب العالمية الأولى، في لقاء في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 1914، بعد أربع أيام من إعلان بريطانيا الحرب على الإمبراطوريّة العثمانيّة، التي تحكم فلسطين وتدير متصرفية القدس.

والثانية: مناقشات جرت في مجلس الوزراء البريطاني، وفي مجلس العموم البريطاني، من حزيران/يونيو إلى تموز/ يوليو1917 أدَّت مناقشات الحكومة البريطانيّة إلى قرار تحضير إعلان الوعد، فالموافقة على إصدار الوعد أواخر 1917، وفي 2/11/ 1917تم إعلان الوعد.

قبل الصيغة والإعلان عن الوعد تم التداول بمصطلحات عديدة كـ«الوطن القوميّ اليهوديّ» و«دولة يهوديّة» و«جمهوريّة يهوديّة» و«كومنولث يهوديّ» أي ولاية حرة لليهود، وقد تحدَّث السيد ونستون تشرتشل عن «دولة يهوديّة»، وتحدَّث آخر في البرلمان البريطاني عن «إعادة فلسطين لليهود».

وقيل إن جدلاً في مجلس العموم البريطاني دار حول الوعد الحكومي البريطاني فيما إذا كان الوعد يتعارض مع الوعود السابقة التي قطعها البريطانيُّون لشريف مكة خلال مراسلات الحسين – مكماهون، لكن وزير المستعمرات في ذلك الحين تشرشل سخر من هؤلاء الذين يعتقدون أن بريطانيا ستسمح بقيام دولة عربية مستقلة، كما طمأن من ادعوا أن إعلان الوعد سيضر بوضع السكان المحليِّين لفلسطين، وسيشجع معاداة السامية الموجهة ضد اليهود في جميع أنحاء العالم، وتجاهلت الحكومة البريطانيّة الرأي القائل أنه من المفترض أخذ آراء السكان المحليين بعين الاعتبار، والذين كانوا يشكلون الأغلبية العُظمى من السكان المحليِّين لفلسطين آنذاك، كما تجاهلت في التنفيذ ما نص عليه الوعد بما يخص حماية الحقوق السياسيّة للعرب الفلسطينيِّين.

بعد المناقشات لبرلمانيين ومسؤولين سياسيين أقروا مصطلحاً غامضاً عمداً، عبارة من المقصود أن تحمل أكثر من تأويل، بهدف الخداع الاستعماري: «وطن قومي» دون الإشارة إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين، الدولة بما تعنيه من أرض وشعب وسيادة.

في 21 تمّوز/ يوليو عام 1921، في لندن، التقى حاييم وايزمان بتشرشل ولويد جورج وبلفور، وخلال هذا اللقاء قام لويد جورج وبلفور بطمأنة وايزمان «بأنهما كانا يعنيان دولةً يهوديّة في نهاية المطاف»، قال لويد جورج عام 1937 أنه كان المقصود أن تصبح فلسطين «كومنولث يهوديّ» عندما «يصبح اليهود أغلبيّة حاسمة بين السكّان»، واتفق مسؤولون بريطانيّون مع تفسير الصهاينة بأن الدولة ستقوم عندما تتحقق الأغلبيّة اليهوديّة، ولقد خضعت قضية الوطن مقابل الدولة للتدقيق. قال تشرشل عن معنى الوطن القوميّ: إذا ما أصبح اليهود على مدار السنين أكثريَّةً في البلد، فإنهم سيأخذونه بشكل طبيعيّ. 

في المقارنة بين الدولة والوطن، يشير الوطن إلى مكان جغرافي يرتبط به المقيمون عاطفياً يتمتعون بالمساواة بالحقوق وعليهم واجبات دون أن يكون لأحد مكوناته الطائفية أو العرقية أو القومية أو الاثنية كيان سياسي مستقل، بينما الدولة لا تعني فقط إقليم جغرافي يسكنه مجموعة أفراد، ما يميز الدولة هو النظام السياسي الذي يخضع له كل السكان على حدود جغرافيا معترف بها. بهذا المعنى اليهود المقيمون في فلسطين قبل المشروع الصهيوني وقبل الهجرات يهود العالم إلى فلسطين هم مواطنون فلسطينيون كما باقي الطوائف الأخرى.

سمح المصطلح الغامض «وطن قومي»، للحكومة البريطانيّة ممارسة الخداع الاستعماري لامتصاص نقمة شعوب المنطقة عموماً وشعب فلسطين خاصة، كما هي عبارة «في فلسطين» التي تشير – حسب رأيهم- إلى أن الوطن القومي اليهودي المُشار إليه، لم يُقصد أن يُغطي كلَّ فلسطين، وهو ما مهد لصدور قرار تقسيم فلسطين، كما مكّنت هذه العبارة الحكومة البريطانية من المراوغة بين طرفي الصراع العربي والصهيوني بأن تفسر للصهاينة أن وطن قومي للشعب اليهودي بهذه الصيغة يساوي مصطلح الدولة، وتدعى لدى القيادة الفلسطينية في ذلك أن وطن لا يعني دولة تخص اليهود دون غيرهم، لكن قراءة نص الوعد بدقة، يظهر نية الخداع الاستعماري في صياغته التي تجاهلت الفلسطينيين أصحاب البلد الأصليين، وأنكر وجودهم، وانحدر بالتعريف عنهم إلى مستوى «الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين»، وسعت الحكومة البريطانية، ونجحت في أن يتضمن صك الانتداب صيغة مشابهة لصيغة وعد بلفور في تحديد هوية الفلسطينيين المقيمين على أرضهم، فجاء صك الانتداب متضمناً صيغة بلفور نفسها دون تغيير: «فئات الأهالي الأخرى»، لكنه أبداً لم يشر إلى الفلسطينيين كشعب له حقوقه السياسية وفي مقدمتها حق تقرير المصير، بينما اعتبر طوائف دينية يهودية تعيش وتنتمي لبلدان مختلفة على مدار الكرة الأرضية بأنهم شعب، وادعى أن صلة تاريخية تربط «الشعب» اليهودي بفلسطين، كسبب يبعث على إعادة إنشاء وطنهم القومي في فلسطين، وبذلك تكون بريطانيا قد اعترفت، ومن ثم فرضت، حق تقرير المصير لمن لم يتشكل بعد كشعب، فضلاً عن كونه ليس من سكان البلد أصلاً، فكان لابد من توفير شروط استقدامه وتوطينه في فلسطين من خلال ممارسة أقصى درجات الضغط وصولاً إلى الإكراه، لا بل العنف بأشكاله على سكان البلاد الأصليين.

إن مُصطلح «وطن قوميّ» بدلاً عن مصطلح «الدولة» صيغ غامضاً وملتبس ومعناه غير واضح قياساً بمفهوم الدولة، ليس بسبب وجود أصوات معارضة للبرنامج الصهيونيّ داخل أوساط الحكومة البريطانيّة، ولم تكن الصياغة نتاج حل وسط بين أولئك الوزراء أنصار إنشاء دولة يهوديّة وأولئك المعارضين لها، فالقناعة كانت راسخة عند البرلمانيين والوزراء والمسؤولين البريطانيين بأن إعلان بلفور سيقود إلى دولةً يهوديّة مع مرور الوقت. حتى أن زعماء الصهيونية أنفسهم صرحوا أنهم لا يريدون صيغة إقامة جمهوريّة يهوديّة أو أي شكل آخر لدولة في فلسطين، ويفضلون صيغة بمعنى عبارة «وطن قوميّ» للعرق اليهوديّ في فلسطين، ذلك لا يعني اختلافاً بينهم، حول دولة كاملة، وإن كان هناك اختلاف بين يهود صهاينة ويهود غير متصهينين.

في المرحلة التي أعقبت إصدار الوعد، كانت الخطوة التنفيذية الأولى والمباشرة احتلال فلسطين، وفرض الحكم العسكري عليها بعد أيام من صدور الوعد، دخلت القوات البريطانية محتلة القدس أواخر شهر كانون الأول / ديسمبر عام 1917. أعقبها قيام بريطانياً بصناعة دولة لليهود بعناصرها الثلاثة أرض وشعب وسيادة، من خلال خطوات تلت الاحتلال مباشرة، وأسست لبناء الكيان في عهد رئيس وزراء بريطانيا ديفيد لويد جورج ما بين كانون الثاني/ ديسمبر 1916  – تشرين الثاني أكتوبر 1922 تتلخص هذه  الخطوات وفق التالي :

ـــــ سمحت بريطانيا الاستعمارية للوكالة اليهودية بالاستيلاء على مساحات واسعة من أراضي فلسطين.

ــــــ اعتبرت الأرض المستولى عليها، تخص شعب استناداً إلى خرافات توراتية، فنظمت بالتعاون مع الوكالة اليهودية هجرات جعلت من المهاجرين مجتمعاً متكتلاً لهم مصالحهم الخاصة.

ـــــ اعترفت بريطانيا الاستعمارية بهيئة هي الوكالة اليهودية معنية بجميع شؤون اليهود ومصالحهم.

ــــــ مكّنت المنظمات الصهيونية من استكمال ما قامت به سلطات الانتداب في كل ما يتعلق بقضايا إنشاء الوطن القومي اليهودي.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير