وهذا محمد .. إرثك يا زكريا

05.09.2024 01:07 PM

 رام الله – وطن للإنباء - كتب أحمد ملحم: في السادس من أيلول لعام 2021، شقَّ الأسيرُ زكريا الزبيدي جدران العتمة، وحفر في الأرض نفقًا بحثًا عن الشمس، التي بزغت من فوهة الأرض له ولرفاقه الخمسة.

"الحريةُ" التي أمضى زكريا حياته بحثًا عنها، حاملًا مشعل شعبه منذ رحلة اللجوء من قيسارية موطن أجداده، في زقاق المخيم حيث عائلته وابنائه واشقائه، في فوهة البندقية البوصلة والإرث الذي تركه لمن لم يضل الطريق التي عُبدت بالدم، ولم تنتهِ.

زكريا الذي حملت ملامح وجهه تفاصيل الخراب ذات اشتباك ومواجهة، بات كفلسطين الرمح، له في كل مدينة قبر، وفي كل مخيم حكاية، وفي كل مقبرة وداع تأخر عنه قسرًا، وقبرًا لحبيب لم يقبله.

واليوم إذ تحضر البنادق والمخيمات والأوفياء لوداع محمد نجل زكريا، فقد غبت مرة أخرى عن عناق نجلك للمرة الأخيرة؛ لطبع قُبلة على ما تبقى من جسده الفتي الذي تشظَّى، تغيب يا زكريا في الزنازين لتفتح في قلبك عزاء جديد لن يحضره سواك، فكم عزاء عليك أن تُقيم في قلبك لوحدك، وكم ضريح عليك أن تبني بداخلك؟!

اليوم لا وداع يا زكريا لمحمد، لا دمعة ولا عناق، فالعابرون لم ينتهوا من وليمتهم، وشمشون المجنون لم يكتفِ من مقتلته، لكن "التنين" يا زكريا لم ينتهِ، ما زال حقيقة لا أسطورة في أزقة المخيمات، وفي جبال القرى يقارع الصياد، ويطارده كما فعلت أنت، كما فعل محمد وداوود، كما يفعل أبناء هذه البلاد التي تتقن إنجاب التنانين.

كم هو مفجع ألمك ووجعك وصمتك ووحدتك في هذا اليوم يا زكريا!، كما هي مؤلمة ذاكرتك التي تحمل في ثناياها فقدًا جديدًا!، وأنت الذي قلت مرة إن: "كل الذين فقدتهم لم أُودعهم ولم أدفنهم، أبي استشهد كنت بسجن جنين وسمعت ذلك في سماعة المسجد، وأمي استشهدت بمعركة المخيم ودفنها الصليب، ومن شدة المعركة لم نستطع الوصول إليها، وهي التي كانت تردد دائماً: "الله يجعل يومي قبل يومك"، وأخي طه دفنوه وأنا تحت حطام المخيم والبيوت المهدومة، واليوم داوود. لم أستطع توديعهم جميعاً، ولم أتمكن من ممارسة طقوس العزاء، لا أعرفه ولم أجربه ولم أمارسه بشكل شخصي".

ولكنك يا زكريا تعرف الطريق، إنها في دمك، في جيناتك، في ملامح بشرتك، في اسمك وفي رسمك، وكأن هذه الطريق هي أنت ولا غيرك، وهذه البلاد هي أنت لا غيرك.

ألم تقل يا زكريا وأنت ترثي شقيقك داوود: "نحن نعرف هذا الطريق وما المصير؟! ففي يوم معركة مخيم جنين كل الأخوة ارتدوا الزي العسكري وتأهبوا للدفاع عنه، والشهادة مطلب كل فلسطيني حر وشريف، وما يعزيني هو أن داوود شهيد وما طلبه ناله وهذا فخر لنا، وذات يوم خاطبني شخص "أنتم أولاد أم العبد"، نعم نحن أبناء الشهيدة".

لم تصدق يا زكريا حين استشهد داوود "أنه كله راح"، بكلِّ ما كان يعني إليك "راح"، فكيف لعقلك أن يستوعب "ذهاب محمد"؟! محمد ذلك الطفل الصغير الذي رسم بسمة على شفاهك وأنت تطارد الصياد، محمد الذي كنت تتمنى أن يصبح طبيبًا أو محاميًا أو مهندسًا، وأنت تدرك أن ذلك لن يكون طالما بقي الصياد على أرضك؛ لأنه لن يسمح له أن يكبُر.

لم يكبُر محمد يا زكريا ولم يكن طبيبًا ولا محاميًا، كان وفيًا لإرثك يا زكريا، لإرث أعمامه وجدته، كان وفيًّا لمداد الدم، لقيسارية، لفلسطين.

لم يكن محمد طبيبًا.. كان زكريا.
لم يكن محمد محاميًا.. كان زكريا.

ومنذ الآن لن تكون أنت نفسك زكريا.. بل ستكون محمد وداوود وطه وهذه البلاد كلها.

تصميم وتطوير