لنؤدِ العهود بكل ما نستطيع فهي أمانة في أعناقنا
كتبت: د.وسام أبو رميلة
في أواخر أبيات رائعة للشاعر المصري إبراهيم ناجي في قصيدته ، "الأطلال"، تُخبرنا أم كلثوم عن خيبة المحبوب الذي استفاق بعد الفراق، متذكرًا العهد وآلام الجروح التي تسببت بها تلك العهود غير المصونة، قائلة: كلما التأم جرح جد بالتذكار جرح حياتنا كلها عهود كبيرة، فيا هل ترى هل سنجعلها جراحًا نتذكر آلامها أم أننا سنصحو الآن؟ ونصلح جودة العهود قبل المغيب.
العهد الإنساني كالشجرة له فروع كثيرة، تثمر إذا ما رعاها زارعها بسقيها باستمرار. فالعهد الذاتي هو الجذع والجذر، وتتبعهما الأغصان التي تشكّل العهد الأسري، والعهد الديني، والعهد المهني، والعهد الإنساني الكبير. وكلما كان التزام الإنسان أعلى بهذه العهود اشتدت أواصر المجتمع وتكاثفه ووحدته. وفي هذه الأوقات العصيبة التي تمر بها الإنسانية، نحن بحاجة ماسة إلى صيانة العهود، والحفاظ عليها.
تتناول هذه المقالة العهود الإنسانية: العهد الذاتي، والأسري، والديني، والمهني، والإنساني الكبير.
كل إنسان في مكانه يمثل ركن عهد متفرد بكيانه وبفروعه الممتدة، وإذا ما قدّر الإنسان قيمة هذا العهد الكبير الذي يتضمن عهودًا أصغر فإنه ينجو بنفسه، وبكل فرد يطاله هذا العهد. فالمكانة الإنسانية للفرد تُحتم عليه الوفاء بهذه العهود والالتزام بها، وهذا من شأنه أن يصون بني البشر، ويحافظ على تفردهم.
العهد الذاتي
هو ميثاق غليظ يقوم بين الفرد وذاته، ويتمثل ذلك بالتزامه تجاه نفسه لصونها من اختبارات الزمان القاسية، ويكون ذلك بأن يحافظ الإنسان على صحته البدنية والنفسية والعقلية. ويتطلب ذلك درجة عالية جدًا من الالتزام على المستوى الفردي والوعي الذاتي الشامل. وتكمن المهارة في هذا العهد في صمود الإنسان، وتكيفه مع تقلب فصول حياته واحدًا تلو الآخر بكل ما يحمله كل فصل من ألوان وأحزان، إضافة إلى الإيمان بأهمية تحمل المسؤولية الكاملة عن كل الأدوار التي تقوم بها الذات تجاه نفسها، والعمل على تحقيقها على أكمل وجه.
العهد الأسري
يتعلق بكل العهود المرتبطة بالأسرة منذ أن يبدأ القرار بالاختيار والارتباط والإنجاب، وحتى التربية والرعاية وتحمل المسؤولية تجاه هذه المؤسسة الإنسانية؛ من أجل الوصول بالأسرة وأفرادها جميعًا إلى بر الأمان على كل المستويات. والارتقاء بها لأفضل أداء وكفاءة. واختصار ذلك والدان فعّالان يكمل أحدهما الآخر أينما حلّا، كمعصمَيْ ربان سفينة تواجه العواصف والأمواج في أقسى المحيطات، الأولى تحرك الدفة والأخرى تدعمها، والتبادل قائم بحسب اتجاه الريح. من يفهم القيم العليا في الحياة الأسرية يقدر تمامًا مدى التحديات التي يجب على الإنسان أن يخرج منها معافى وأسرته سويًا.
ويذكرنا ذلك بالصيت الذائع حول تحقيق المرأة لذاتها وتضئيل حجم مهمة الأمومة العظيمة، ولعلنا نرى توضيحًا وتفصيلًا راقيًا في هذا الخصوص للدكتورة آلاء ناصيف، مديرة مبادرة الأسرة المعرفية في بودكاست مربع؛ إذ تؤكد أن المرأة هي البداية والنهاية، وهي أساس الأسرة، وتبيّن أن الأمومة هي أعظم عمل بالتاريخ، وذلك لا يتضارب أبدًا مع نجاح المرأة في عملها. ومن الأمثلة التي طرحتها قولها أو تسميتها الجميلة لأبناء سيدات متخرجات من تخصص هندسة كهربائية، اختَرْن إغلاق كل وسائل التواصل الاجتماعي بسبب الضغط غير المحتمل، وألا يذهبن إلى سوق العمل حتى يربين أبناءهن، فتقول الدكتورة آلاء ما هذا المنتج الحضاري الذي أنتجنه!؟ (واصفة أبناءهن) أتمنى لو باستطاعتي نمذجته في البلاد.
ولا ننسى أهمية تكيف الأسرة مع أي ضائقة تمر عليها بين الحين والآخر، فكمْ من زوج وصل به الحال للانفصال بسبب ضائقة مادية عابرة، أو بسبب مشكلة صغيرة كان ممكن الصمود أمامها بقليل من الهدوء والصبر والوعي والكلام الجميل؟! وليكن تدخل الأقارب أفضل مثال وعدم وضوح توزيع الأدوار منذ بداية الرحلة.
إذا لم يسند الأزواج بعضهم البعض في كل هبوط، فكيف سيتمكنون من التحليق عاليًا بأسرهم فيما بعد؟ فيكون هذا العهد بتقدير القيمة العليا للارتباط والإنسانية، وفهم حقيقة أن الزوجين معًا ينتجان مخرجًا إنسانيًا مواكبًا بامتياز، ويكون ذلك مشروطا بالوعي التام بالأهمية الكبيرة لهذا الدور التبادلي بينهما، وتجريد القيمة الأسرية من الإنجازات المادية، وإدراك اختلاف معنى التربية عن معنى الرعاية، وضرورة تقديم التربية والرعاية معًا وبأدوار متكاملة من قبل الآباء للأبناء.
هناك الكثير ممن يخلط بين المفهومَيْن، ويكتفي بالرعاية، ويعتقد أن هذه هي التربية فقط! ويجدر بنا الإشارة إلى التربية الروحية التي تتبعها بعض الأسر مقابل التربية المادية التي تتبعها أسر أخرى.
تتمثل التربية الروحية بإشباع كافة الحاجات العاطفية والنفسية، وإرساء القيم، وعدم اشتراط المحبة بالأداء أو الإنجاز، بينما تعاكسها التربية المادية التي تبنى على الإنجازات المادية بعيدًا عن القيم وإشباع الحاجات العاطفية، فالمحبة مشروطة بالذكاء والنجاح والإنجاز المادي!
العهد المهني
يكون في التزام الإنسان بالأمانة المهنية تجاه المنتفعين من مهنته، فالطبيب مثلًا عهده كبير يمس الإنسانية وبقاءها. والمعلم عهده كبير ينير عقول الأمة إذا ما حافظ على عهده. وتتمثل المسؤولية في إتمام العهد بالإيمان به بالدرجة الأولى، وبسمو غاية تحقيقه، من خلال التزام كل شخص بمهنيّته وأداء واجباته المهنية على أتم وجه أيًا كانت مهنته، ويبدو واضحًا أن هناك العديد من المهن التي بدأت تندثر ملامحها بسبب غرقها في عدم مهنية بعض أصحابها.
العهد الإنساني الكبير
هو الصفة البشرية التي تجمعنا جميعًا، شعور الإنسان بأخيه الإنسان. يؤلمه ما يؤلمه ويفرحه ما يفرحه، تمامًا كتبادل مشاعر فرح فوز فريق كرة قدم على مستوى الوطن العربي أو العالم، وحزن الإنسان للمآسي التي نشاهدها في وسائل التواصل الاجتماعي من حروب وجرائم وأحداث قاسية منزوعة الرحمة.
يتسم هذا العهد بأنه غير مقرون ببلد أو جماعة أو عرق أو لون، فهو فطري موجود بالفطرة، فيحزننا ما يحدث ولو أنكرنا، فكما لن ننسى ما حصل في العراق وسوريا ولبنان فمن المستحيل للعقل البشري الذي عرف وشهد مأساة الحروب أن ينسى أو أن يمحي حزنه لمصاب أخيه الإنسان هناك. فالحروب لها ندوب في نفوسنا لا تغيب حتى وإن توقفت.
الدرب قصير، والجسد راحل لا محالة، فلنجعلها ذكرى روح جميلة، لنؤدِ العهود بكل ما نستطيع من قوة والتزام حتى لا نبكي ألمها.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء