الأيام الحادي والثاني والثالث والثمانون بعد المائتين لحرب الإبادة على غزّة، 13-15 يوليو 2024
زينب الغنيمي تكتب لوطن من غزة: رائحة الموت والدم والاحتراق تملأ أجواء قطاع غزة، والغريق يتعلّق ولو بقشّة

ما زال العدو الصهيوني الفاشي يرتكب المجازر الوحشيّة التي تفتك بالشعب في كُلّ مكان في قطاع غزة، حيث يسقط عشرات الشهداء والشهيدات وآلاف الجرحى والجريحات، وعدّاد الموت يحسب ويحسب، قلّ الرقم، لا ارتفع، أصبح سبعين ثم مائة وعشرين ثم غير ذلك. كما ينطبق هذا على أعداد الجرحى والجريحات، حيث يغتال الجيش النازي كلّ لحظة في حياتنا كي لا نشعر بالأمان في أيّ مكانٍ بغض النظر عن جغرافيا المكان، سواء إن كان مصنّفًا رسميًا كمكانٍ آمن أم منطقة عمليات قتالية، وهل المكان يقيم فيه مدنيون أم لا، وهل هو مركز أم مخيم إيواء أم مبنى، ...إلى آخره من التفاصيل التي أصبحت يوميًا شغلنا الشاغل، فاجتياحات الجيش الصهيوني باتت يوميةً؛ اقتحام منطقةً ما ثم الخروج منها ثم العودة إليها، والدخول في نفس الوقت لمناطق أخرى لا يتوقّع ساكنوها أن جاءهم الدور هم أيضًا، والكثير من الناس غافلون عن أخذ الاحتياطات اللازمة لاتّقاء الشرّ الذي يداهمهم.
كما أصبح معروفًا أنه في كلّ جولةٍ من المفاوضات التي تُعقد للوصول إلى اتفاق، تتكرّر نفس الأحداث وتتّسع دائرة أهداف الجيش الفاشي كي يقضي على أيّ إمكانيةٍ لنجاح المفاوضات، وهذا يُعبّر عن موقف حكومة الحرب الصهيونية، فهي توافق على التفاوض لذر الرُماد في العيون أمام المجتمع الدولي، وتستمر في عدوانها الغاشم دون توقف.
تقول صديقتي المقيمة في غرب مدينة غزة "فجأة سمعنا الصواريخ بتنزل والمدفعية اللي بتقصف، وإحنا مش عارفين ليش ووين وشو لازم نعمل". صحيح هم لن يعرفوا ماذا سيفعلون لأنّ الطائرات المُسيّرة وطائرات الاستطلاع تُطلق الرصاص على كلّ ما يتحرك وفي أيّ منطقةٍ يدخل إليها الجيش، حيث يُضطرّ الناس للالتزام في أماكنهم خشية قنصهم وحتى لا تصبح جثثهم طعامًا لكلاب الشوارع، وحين يأمرهم الجيش بمغادرة المنطقة ويخرجون لاهثين تلاحقهم أيضًا طائرة الاستطلاع لتطلق الرصاص عليهم.
حين اتّصلت بإحدى السيدات منذ قرابة أسبوعٍ كي أبلغها أنها ستستفيد من مساعدةٍ من المركز، قالت أنّ منطقتها مُحاصرة، واتفقنا أن نتواصل بعد انسحاب الجيش، وبالفعل، وبعد عدّة أيامٍ ومع خروج الجيش من مُحيطها في تلّ الهوى، أبلغتني أنّ الوضع أصبح أفضل، ولكن لم يكن سهلا في الحقيقة الوصول لمكانها. وبسؤالي عن أحوال عائلتها، صُدمت بقولها أنّ ابنها الذي كان سيتم الثامنة عشرة بعد شهورٍ قليلة قد استشهد في اليوم الأول لتوغّل الجيش وأنّها بقيت وحدها مع ابنتها، حيث لم تذكر لي ذلك على الإطلاق حين اتصالي بها أوّل مرة، وقد استغربت جدًا من هدوئها، ولم أستطع تشخيصه؛ هل تريد أن تحافظ على رباطة جأشها لحماية ابنتها؟ هل هول الحدث والشعور بالفقد أبكماها ولم تستطع التعبير؟ شعرتُ بمرارةٍ كبيرةٍ وأنا أستمع لها على الجوّال، ولمست من صوتها حجم الألم الذي يعتصرها كأم وإنسانة، وهي لا تستطيع أن تُصدّر ألمها ووجعها بسبب فقدان ابنها، ولا أن تتشارك مع أحدٍ نقص احتياجاتها، وقد اتضح لي حجم هذا الاحتياج من لهفتها للحصول على سلّةٍ غذائية وحقيبة صحية، لإنّها كانت قد قطعت المسافة الطويلة من بيتها للوصول لمركزنا من أجل ذلك.
فعلاً، يُصدّق الغريق أنّ تلك القشة ستنقذه، ومنذ بداية هذا العدوان النازي أصبح جميع الناس غرقى يحاولون التعلًق بأيّة قشةٍ لإنقاذهم، سواء قشّة النزوح من مكانٍ إلى آخر يعتقدون أنه أكثر أمنًا، أو التعلق بقشّة الرحيل نهائيًا عن القطاع، ولكنهم تاهوا في كلّ البلاد التي ذهبوا إليها، والبعض تعلّقوا بقشّة البقاء أحياء رغم نزف جراحهم وتقطّع أجزاءٍ من أوصالهم باعتبار هذه الحال أفضل من الموت، أو التعلّق بقشّة السكن في منزل حتى لو مع آخرين باعتبار ذلك أفضل من المدرسة، أو التعلّق بقشّة الإيواء في مدرسة حيث أنّه أفضل من الإيواء في الخيمة، وينطبق هذا على كُلّ تفاصيل الحياة اليومية بما فيها المأكل والمشرب والملبس.
في اتصالي مع صديقتي النازحة قسرًا في الجنوب سألتني إن كنت سمعت آخر الأخبار، ثم أتبعت ذلك بالقول: "نزلت علينا شظايا وأجزاء من القذائف، قصفوا الخيام بالمواصي والشهداء مرميّين بالعشرات، الله يستر شو راح يصير فينا"، وعلى إثر ذلك اتّصلت بأكثر من زميلة للاطمئنان عليهنّ، وكنت أسمع نفس التعبير عن القلق والخوف من المستقبل "الله يستر شو بدو يصير فينا!".
صحيح أنّ كُلّ ما يُحيط بنا مجهول، ولكن ما زال الناس يُلاحقون القشّة التي ستُنقذهم من جحيم هذا العدوان الهمجي، وما زال لديهم أملٌ بالنجاة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء