بين ثنائية الإبادة والانكار .. هل سترتد النكبة إلى صانعيها؟
كتب د. محمود الفطافطة: إن البحث في مواقف المجتمع الإسرائيلي من النكبة، واستكشاف التسويغات التي تدعم هذه المواقف وتشرعنها وتمنطقها، يكشفان كنه عملية بناء الرواية الإسرائيلية فيما يتعلق بتاريخ الدولة وشرعية وجودها وكيفية الانشغال المستمر بتوفير الدعائم للرواية التاريخية للحفاظ على تماسك ادعاء شرعية المشروع الإسرائيلي، بما في ذلك إنكار التطهير العرقي في فلسطين خلال النكبة، الأمر الذي يطرح التساؤل المباشر الأكبر بشأن صدقية هذه الرواية.
وبالتالي، يسمح تفكيك الخطاب الإسرائيلي المتعلق بالنكبة بتقصي مكوناته ماضياً وراهناً، وصولاً إلى مواجهة الأبحاث التاريخية التي تكشف عورة ادعاءات إسرائيلية مركزية بشأن النكبة وتبعاتها حتى اليوم.
في هذا التقرير سنستعرض ما جاء في كتاب النكبة الفلسطينية في الحيز العام الإسرائيلي: جذور الإنكار وذرائع المسؤولية، لمؤلفيه د. أمل جمال وسماح بصول، والصادر عام 2017. يذكر الكتاب أن المعتقد الأبرز في الخطاب العام الإسرائيلي تجاه النكبة يكمن في الربط بين ثلاثة ادعاءات تراكمية هي: إنكار مجرد وقوعها؛ النظر إليها كبدعة مهددة هدفها نزع الشرعية عن إسرائيل؛ والتنكر للمسؤولية عنها. هذا المعتقد (وفق الكتاب) يطابق الموقف الرسمي الإسرائيلي الذي لا يُبدي استعداداً للتوصل إلى تسوية مع ذاكرة النكبة الفلسطينية، لا بل يرفض تأريخها.
اعتراف خجول
ويؤكد الكتاب أن هناك اعترافاً غير رسمي وخجولاً ببعض الأفعال التي اقترفت في الفترة 1948 ــــ 1949، لكنه يبقى اعترافاً غير رسمي، وهو جزئي ومتنكر للنكبة في مجملها، ويهدف أساساً إلى تحويل النكبة إلى ذاكرة فولكلورية عديمة المدلولات السياسية أو القانونية. ويشير إلى أن الحركة "الصهيونية" ودولة إسرائيل لم تمتنعا من رؤية الفلسطينيين كضحايا لسياساتهما فحسب، بل كانتا أيضاً تتطلعان وتعملان بهمة ونشاط على تجريدهم من القدرة على عرض أنفسهم كضحايا.
وتُظهر نتائج مسوحات الدراسة أن 52,5% من اليهود لا يُصدقون حدوث نكبة للفلسطينيين، وهذا يرجع إلى رغبة اليهود في التنصل من أي ذنب يتعلق بهذه النكبة، ولأن تحمل المسؤولية عن وقوعها سيعزز المطالبة بالاعتراف بحق عودة اللاجئين العرب إلى دولة "إسرائيل" وترميم بلداتهم المهدمة، علاوة على ما سيؤديه ذلك الاعتراف إلى تشويه الطابع اليهودي للدولة.
ويرى الكتاب أن الإسرائيليين تعاملوا مع التطرق إلى مدارك النكبة والعودة إلى جذور الصراع كضرورة للتعامل معه وحله، على أنها تهديد، بينما شدد الفلسطينيون في "إسرائيل" بصورةٍ خاصة على أهمية حق العودة، وتطور تقليد المسيرات إلى القرى المهجرة في يوم النكبة.
ويبين الفصل أن استراتيجية إسرائيل الجديدة استندت إلى استغلال الجمود السياسي من أجل تثبيت حقائق جديدة على الأرض لا يمكن تجاهلها في أثناء المفاوضات المستقبلية.
كي الذاكرة!
ويتوقف الكتاب عند تقنيات إسرائيل لضبط ذاكرة النكبة على المستويين الرسمي وغير الرسمي، مُجملها في: تجاهل رسمي وإقصاء غير رسمي؛ تجسد في سياسة شطب الآثار الملموسة لوجود فلسطين قبل سنة 1948، وعرض مشكلة اللاجئين كمشكلة إنسانية يتحمل مسؤوليتها القادة الفلسطينيون وزعماء الدول العربية، ومحو الذاكرة بواسطة الكتب التدريسية التي تتجاهل البعد الإنساني لتبعات حرب 1948، وإنكار رسمي عبر نزع الشرعية عن التاريخات الجديدة، لا سيما أدبيات المؤرخين الجدد التي ناقضت الرواية الإسرائيلية المركزية بشأن الحرب واللاجئين.
وبالإضافة إلى التطور السياسي ــ القانوني ضد النكبة بمدلولاتها المتعددة؛ كسن قانون النكبة الذي يهدف إلى تمكين وزارة التربية والتعليم من فرض عقوبات مالية على المؤسسات التربوية التي تُحيي ذكرى النكبة، علاوة على إدارة حرب افتراضية؛ قوامها تقليص الوجود الفلسطيني ومحو الغبن ونسبه إلى إسرائيل باعتبارها ضحية مظالم الفلسطينيين.
ويعالج الكتاب جذور الإنكار الإسرائيلي للنكبة، إذ يوضح وجود عدة مصادر للإنكار الإسرائيلي للنكبة ومدلولاتها، وهي مصادر متنوعة تنعكس من خلال أشكال متعددة.
فمنها مصادر ايديولوجية ــــ سياسية ترى أن أي اعتراف بوجود النكبة من شأنه أن يُخلخل أسس المعتقد "الصهيوني"، وخصوصاً الادعاءات المضمنة في خرافة " شعب من دون أرض، لأرض من دون شعب". وهناك مصادر أخلاقية تعتقد أن أي اعتراف بوجود النكبة يعني إلقاء المسؤولية السياسية والأخلاقية على دولة إسرائيل على حدوث النكبة، وبالتالي تثبيت "بقعة ذنب" على عملية التطهير العرقي المتعمدة، والتي لا تزال آثارها باقية على الأرض حتى يومنا هذا.
خلخلة الخرافة!
كذلك، هناك مصادر نفسانية تذهب للتأكيد على أن الاعتراف بالنكبة من شأنه أن يُخلخل خرافة تفرد المحرقة، وأن يُجرد اليهود من طقوس كونهم الضحية، ومن ثم يثبت أن الفلسطينيين هم الضحايا المباشرون للاحتلال.
وبالإضافة إلى ذلك، هناك مصادر استراتيجية تتجلى في الادعاء القائل بأن الاعتراف بالنكبة يعني نسب نيات سيئة الى قيادة "الصهيونية" على المستوى الاستراتيجي والعسكري في أثناء حرب 1948وما بعدها. ويعني هذا فرض المسؤولية على إسرائيل في كل ما يتعلق بمسألة اللاجئين الفلسطينيين وتحويلهم إلى بند أساسي في حل المشكلة الفلسطينية.
وعلاوة على كل هذا يوجد المصدر القانوني الذي يُعتبر أشد جسامة وخطورة من كل المصادر الأخرى، وهو الاتهام المباشر لشخصياتٍ بعينها كانت ضالعة في أعمال الطرد والمذابح، والمطالبة بتقديمها إلى المحاكمات الدولية فيما يتعلق بهذه الجرائم. وأخيراً، هناك المصادر الدبلوماسية ــ الدعائية التي عملت إسرائيل كثيراً من أجل تدعيم وجودها وعرض القوة كاضطرار واقعي، كما عملت على إلقاء مسؤولية مباشرة على الفلسطينيين والعرب بصورةٍ عامة، الذين يضطرونها إلى استخدام القوة.
وبهذا، فإن تجنيد الاحتلال الإسرائيلي كافة وسائطه لتغييب الرواية الفلسطينية، وإنكاره للنكبة والمسؤولية عن حدوثها يدفعنا إلى التفكير في استراتيجية التكثيف والتعزيز من فعالياتنا؛ مما يساهم في زيادة حجم التغطية، وبالتالي عدم تغييب هذه الرواية.
من هنا، فإن الكتاب يحمل مُعطى معرفي رصين عن النكبة بكل تفاصيلها، إلى جانب رسمه لخريطةٍ واضحة تساعد في تقويض الخرافات الإسرائيلية الخاصة بالنكبة، وخصوصاً خرافة "القلة مقابل الأكثرية"، وخرافة "الهرب الجماعي" مقابل التهجير والطرد المتعمّدين، وغيرها من الإشاعات التي أتقنتها وسائل الإعلام الإسرائيلية المختلفة.
خلاصة الكلام: لقد تبدلت الموازين، وجرى في النهر الكثير من المياه، ولكن ما هو ثابت وواضح للعيان أن الفلسطينيين لم يعودوا ضحية للضعف والتهميش، بل سطروا من خلال طوفانهم الجديد، وصمودهم العظيم أنشودة للتحرير والحرية. أما الاحتلال؛ فلا مفر له إلا الفرار أو القبر.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء