الأسرة والفقدان في ظل الحرب

15.04.2024 06:40 PM

 كتبت سعاد متولي بدران - إشراف الدكتورة فلسطين نزال: أم تصرخ هل شاهدتم ابني يوسف.. أبيض حلو وشعره "كيرلي".

وأم أخرى تصرخ منهارة ذهبت للسوق لأحضر الطحين قصف بيتي وعائلتي ماتوا جميعا.. يا ريتني لم أذهب.. أب مذهول.. يبكي لم يتبقى لي أسرة استشهدوا جميعا.

أب وام فقدوا ابنهم الوحيد الذي انتظروا انجابه بعد ستة عشر عاما.. وهناك تجلس من بعيد طفلة العشر سنوات تحمل اخاها الرضيع وتقول استشهدت أمي من سيرضع اخي ويعتني به فأنا اليوم علي أن اطعمه وانظفه واعتني به  كيف سأستطيع ما زلت صغيرة ولا أعرف كيف.. لم يبقى لنا أحد أنا اليوم أمه وأخته كانت أمي حنونة تعتني بنا وابي كان دائما بجانبنا يحمينا.

طفلة الاثني عشرة ربيعا الناجية الوحيدة من عائلتها تنظر بخوف وتساؤل ماذا حدث أين عائلتي أريد أمي وأبي أختي كنا نلعب سويا أين جدتي .. وأين وأين تبكي حينا وتسأل حينا اخر، وهناك بالممر البعيد  بالمشفى طفلين جريحين ينظر الطفل الجريح الى أخاه ويقول له لا تخف أنا معك .وبالجهة الأخرى طفل يصرخ يا كمال  لا تذهب وتتركني وحيدا افتح عيناك وتحدث معي لا تمت ما زلت لم اشبع منك قم لنلعب لنركض لنبحث عن الطعام سويا .
أم، أب، أخ، وأخت كل يبحث عن ما تبقى من عائلته عسى أن يجد أياً منهم ليشعر بوجوده ليطمئن قلبه في ظل الدمار والقصف والخوف قد يجد من يسير معه بين الركام والدمار.
أسر وعائلات استشهدوا جميعا أو بعض منهم ونسيج العائلة وهيكلها.. والادوار تبعثرت وتداخلت فما هو الحاضر والمستقبل وما تبقى من ذكريات وصور وقصص من الماضي القريب البعيد.
ما هو مستقبل العائلات في غزه التي فقدت أغلى ما تملك.. العائلة والبيت والسند والأمان. هل اختلال الأدوار والنسيج العائلي الممزق من الفقدان والنزوح في ظل العدوان وحرب الإبادة الممنهجة.. ما هو مدى التأثير على طبيعة تكوين ووظيفة العائلة؟
ما يقلق اليوم ما هو مستقبل العائلات بغزه بعد تجارب الإبادة والمجاعة والنزوح والفقدان والصدمات المعقدة التي تعرض لها أهل غزة دون استثناء. هل سيستطيع ما تبقى من أفراد وأشلاء ما تبقى من عائلات أن تنهض وترمم ما دمرته الحرب الممنهجة من الوقوف ثانية؟ هل يستطيع الأطفال الذين فقدوا عائلاتهم بناء عائلاتهم المستقبلية في سن الرشد؟ هل تستطيع الأمهات الثكلى الصمود وتحمل الألم لإعادة بناء الاسرة من جديد؟ هل الفقدان المؤلم لبعض أو لجميع أفراد الاسرة أن يستطيعوا النهوض من جديد لتحدي الألم وتحويله الى أمل في للحياة؟ أم هل سنعاني من مجتمع يعتصره الألم والخوف والانهيار؟ هل سيتغلبون على الصدمات والفقدان الأليم لإعادة البناء النفسي لهيكلية العائلة؟ أسئلة عديدة ومستقبل غامض.
هل يستطيع المجتمع التغلب على التحديات والفوضى اللامتناهية هل بالإمكان ترميم وتعقيم واحتواء   الجروح النفسية العميقة وعدم الوضوح لديناميكيات وادوار الافراد والجماعات لإعادة الامل لأسر مستقبلية يسودها الحب والتضحية والتحدي أم ستغرق بالتماثل مع الصدمة وتحويل الغضب والعنف اللامتناهي على بعضنا البعض؟
متى ستنتهي الحرب وما هي الاستراتيجيات والاليات المطلوبة لإعادة بناء المجتمع؟  ما هو دورنا وواجبنا كأمهات وأباء وعائلات وأفراد مجتمع بكافة فئاته وأعماره التعاون مع من فقد ومن عانى هل سنكون السند والامن والأمان لمستقبل أفضل.
كيف لنا كمجتمع أنهكته الحياة من تحديات نكبات وانتفاضات وحروب متكررة أن ننهض من جديد بقوة وتماسك لبناء عائلاتنا كيف لنا أن نحتوي ألمنا وخوفنا وتجاربنا المؤلمة للنهوض من جديد. هل المستقبل به أمل أم ألم لا ينسى؟ هل ستشفى جروحنا ام ستبقى ندبات للمستقبل البعيد. هل لنا أن نتحدث عن تاريخنا المؤلم لإحفادنا بافتخار عن قوتنا وتماسكنا أم سنعيش ونموت أسرى لصدماتنا المتكررة وننسى معنى السعادة والحياة. وننشغل بصراعاتنا وخلافاتنا وغضبنا على بعضنا البعض؟
علينا دائما ألا ننسى اننا شعب يحب الحياة ويؤمن بان على هذه الأرض ما يستحق الحياة. يجب أن لا ننسى بأننا شعب الجبارين شعب لن تهزمه الحروب والصدمات.. سنعيد بناء اسرنا ومجتمعنا ووطننا طالما لنا قلب ينبض لن نستسلم وسننهض ونبني انفسنا من جديد .

وفي النهاية يقع على عاتقنا واجبنا كأخصائيين أولاُ ومجتمع ثانياً أن نكرس أنفسنا وطاقاتنا لمساندة العائلات الثكلى من خلال تقديم الدعم والتفريغ النفسي والحديث عن التجارب والصدمات المؤلمة بأسلوب مهني متعاطف وداعم وعدم الانتظار لانتهاء الحرب لعمل التدخلات العلاجية المتعددة.
لقد أثبتت الدراسات العديدة أن التدخل الاولي للازمات مثل التفريغ النفسي للأحداث المؤلمة يمكن أن يساهم في الوقاية من حدوث صدمات معقدة فيما بعد .
كما أنه من المهم التفريغ عن الاحداث المؤلمة من خلال   مجموعات مختلفة   باختلاف الفئات العمرية، ممن عاشوا نفس الحدث والحديث عن التجربة المؤلمة بشكل متسلسل من أجل تنظيم الذات من الأفكار والمشاعر.
يمكن استخدام نموذج التدخل وقت الازمات للعالم جيفري ميتشل للخطوات من خلال المراحل التالية
المرحلة الأولى: التعريف عن الذات وطبيعة التدخل وطلب من الحضور أن الجلسة هي الحديث عن كل فرد عن تجربته الشخصية دون الخوض بتفاصيل قد لا يرغب بالإدلاء عنها انما بالقدر الذي يراه مناسب بداية يتحدث الفريق اذ يتم تزويد المجموعة المعلومات الرسمية لما حدث من أضرار ماديه أو أعداد الشهداء أي إعطاء معلومات حقيقية واضحة تفاديا من الاشاعة.
المرحلة الثانية: من خلال الحديث عن الوقائع والحدث الأكثر ايلاما
المرحلة الثالثة: الأفكار الصعبة التي قد تسيطر على تفكير الفرد اثناء الحدث
المرحلة الرابعة: المرور على المشاعر المختلفة مثال (الغضب، الخوف، العجز ...الخ)
المرحلة الخامسة: المرور على ردود الفعل الجسمانية مثل (الالام الجسمانية، صداع، الالام بالمعدة ، وغيرها )اعراض  نفسية جسمانية  التي  قد تحدث أثناء او بعد انتهاء الحدث
المرحلة السادسة: إعطاء مساحة وشرعية لما قد يعبر عنه الافراد دون الحكم انما تفسير لهم ان كل ما تحدثوا عنه طبيعي ضمن الظروف غير الطبيعية واعطاء معلومات علمية بسيطة عن أعراض الاجهاد الحاد والضغط النفسي لاضطراب ما بعد الصدمة .
المرحلة السابعة: الانهاء للجلسة الجماعية يتم نقاش بعض المقترحات لآلية مساعدة الذات واعطاء بعض الارشادات للعناية بالذات وعناوين لطلب المساعدة النفسية ان شعروا بالاحتياج فيما بعد.
أما بالنسبة للأطفال من المهم إعطاء مساحة للتعبير عن الحدث والمشاعر من خلال الرسم اللعب أو التمثيل الدراما الممنهجة من قبل مرشدين. كما من المهم إعطاء مساحة للعب وتفريغ الطاقة الجسمانية من خلال تمارين حركية. من المهم ارشاد الاهل ومقدمي الرعاية الى أهمية التقرب العاطفي والجسماني وابداء التفهم لمشاعرهم المحتفلة .

كمجتمع بشكل عام علينا تقديم الدعم النفسي والمادي والمساندة والتعاطف وبث روح التعاون والامل لتخطي المحنة والالم. لآن ما بعد الحرب العمل والتدخلات المطلوبة عديدة وتحتاج للتكاتف والتعاون والعمل الجماعي من القلب وبأعلى درجات من المسؤولية والمهنية والوطنية.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير