غزة: الحديقة الخلفية للحرب

24.03.2024 09:44 AM

كتب ثائر أبو عياش : في الحرب هناك مشهدين هما أساسيان يبرزان على السطح، حيث الأول، وهو صورة اللجوء، والوداع، والمقابر الجماعية، والطائرات، والاشتباك، والتمسك الرواية، والبكاء، وركام البيوت المهدمة تكون واضحة للجميع، حيثُ تشاهد على أرصفة الطرقات، وعبر وسائل الإعلام، وفي دموع الأمهات والآباء على فتحات القبور، أما المشهد الثاني فهو صورة الحرب المرتدية طاقية الخفاء التي تعبث في العمق النفسي والاجتماعي سواء على الصعيد الفردي، أو الجماعي، إذ الحرب هي سؤال دائم عن الموت، والأخير يحفر بشكلٍ مرعب داخل الوعي، وأكثر داخل الذاكرة، إذ في الحديقة للخلفية للحرب يبحث الجميع عن النجاة منها، لكن الحرب هي منطقة أحتلها الموت، خصوصا أن الحرب هي الثقل، والهروب من الحرب هو الخفة.

في الحديقة الخلفية يجري سحق لذاكرة الجماهير، إذ يقوم الاحتلال بسكب الناس داخل وعاء مليء بالثعابين السامة، ويقوم بإغلاق السدادة، كأنه بذلك يقنعهم أن الحرب مع الثعابين هي نهاية اللعبة، وهذا ما يجعل الجماهير تعتقد أن الحياة ليست إلا لعباً مع الثعابين، إذ الجماهير هنا لا تشاهد إلا الثعابين، ولمس جلودها، وسماع صوت الفحيح من بين أنيابها، والقتال معها من مسافة صفر، وقتلها للبعض، والسباحة في بحر من الدماء، خصوصا أن الاحتلال وضع قطعة قماش سوداء اللون على الوعاء من الخارج حتى لا يشاهد الناس إلا الحرب داخل الوعاء، وهو بذلك يقوم بمحاصرة الأحلام، والمستقبل.
من زاوية فيها بصيص من الأمل يسعى البعض لنزع هذه السدادة أو تكسير الوعاء، والقصد هنا المقاوم الذي هو سيد البندقية، فالمقاوم يسعى دوما للنبش عن الانتصار لا وقف الحرب، حيث القتال لديه ليس في تكسير الوعاء بقدر ما هو في تحطيم فكرة الوعاء ذاته، إذ وجود الفكرة وتحقيقها النجاح يعني ذلك إمكانية العودة لها دوما خصوصا في العقل البشري الذي يمتهن فكرة قتل الآخر بحجة القوة التي يعتقد الاحتلال أنها تعطيه الحق في إغلاق الوعاء، ولكنه بذلك يمارس العنف ضد الإنسانية كما يقول فرويد في كتابة أفكار لأزمنة الحرب.
بالعودة إلى الحديقة الخلفية للحرب، أو للتوضيح لوعاء الثعابين، يعتقد الاحتلال دائما أن الشعب الذي يقوم باحتلاله يجوز قتله لأنه الثاني خارج قانون، وهذا ما يجعلنا نقول أن الحرب عندما تقوم تكون خارج القانون بذاتها إذا كانت في سبيل هدم الإنسانية، إذ الذي يقرر أحقية الحرب هو أحقية الرواية ذاتها، لذلك هناك خيط رفيع وسميك في اللحظة نفسها يفصل بين الأحقية في الحرب، وصناعة الأحقية، والاحتلال في قطاع غزة يمتهن الأخيرة التي في جوفها يتربع الاستعمار بشتى أنواعه محاولا تلفيق رواية داخل الحديقة الخلفية ليقنع نفسه أنه صاحب الحق، ولذلك يمعن في القتل.

من جديد في الحديقة الخلفية للحرب يكون الخوف أحد أجزائها الرئيسة، إذ الخوف في الحرب مهما كان صغيرا فهو التعبير المكثف عن الموت، وليس القصد الموت الطبيعي الذي اعتدنا وجوده، حيث للموت أشكال أخرى، وأصعبها توقف الحياة عن الاستمرار على الرغم من نبض القلب، واستمرار الجسد على الحركة، وهنا على السبيل المثال لا الحصر: في غزة مسحت عائلات من الوجود إلا فرداً واحداً، وهُدم بيت الأحلام، واحترقت المركبة والذكريات، والحرب ما زالت مستمرة، والأخيرة كأنها تقول لهذا الفرد عليك الانتظار في طابور الموت حتى يأتي دورك.

في صلب ما سبق داخل الحديقة الخلفية لوعاء الثعابين تختل موازين العلاقات الاجتماعية، ويزداد الدعاء ومخاطبة الله، وتصبح الابتسامات محاولة للتحايل على الرعب، وتنخفض حفلات الزواج، وتؤجل الأحلام، وربما تندثر، وتحررنا الحرب من الأوهام *، وأكثر تصبح الحرب درسا لمخاطبة الذات، أو مراجعة النفس مع الأخطاء، إذ الحرب تضعنا في امتحان حقيقي دفعة واحدة، وهناك من يرسب بطبيعة الحال، وهناك من ينجح، حيث في الحرب هناك من يبحثون عن استغلال الوقت في سبيل الربح، ولا تتعجب إذا وجدت في الحرب لصوصاً، إذ بحسب نظريات علم الجريمة اللص يحتاج إلى الفرصة، والحرب هي الفرصة الجوهرية للص، وبطبيعة الحال اللص في الحرب أنواع، ومنهم السياسيون.

من زاوية هي أكثر التصاقاً مع ما سبق، تأخذ الحرب منحنى الصعود أحيانا، ومنحنى الهبوط أحيانا أخرى في الحديقة الخلفية، وما بين الاثنين يتم تقسيم الناس إلى فئتين، إحداهما لم تفقد إيمانها بالنصر، وأخرى تكون قد غرقت في الوحل، وأكثر في الوهم، وهنا أهم جزء في الحديقة الخلفية، إذ البقاء، بل الاستمرار هو جوهر النصر، حيث التعب، والإرهاق، والملل، هي أشياء بديهية يحاول العدو صناعتها داخل الحديقة الخلفية للحرب، والقصد هنا هو بث سموم إلى جانب سموم الأفعى ليدفع الناس إلى السقوط، والاستسلام، ومن ثم الهزيمة.

أخيرا وليس آخرا إن الحديقة الخلفية للحرب كبيرة جدا، إذ تملؤها هموم الجماهير، فهناك من ينتظر انتهاء الحرب للعودة إلى البيت، وهناك من ينتظر العودة لتجارته، وهناك من يعيش سؤال الجودة دائماً، وهناك أيضا طفله تنتظر العودة إلى لعبتها...، وهذا يدعونا للقول أن الحرب مكيدة عاطفية السقوط فيها فخ نصبته لنا الحرب، وعليه إن التحرر من الأوهام الفردية في زمن الحرب، وأكثر التحرر من الحديقة الخلفية للحرب هو شرط أساسي لتحقيق الانتصار، ولذلك علينا التحرر من إخفاء أحاسيسنا داخل الحديقة الخلفية، ونتمسك بالجرأة للقول كل شيء في الحديقة الأمامية.
_____
*الحرب تحررنا من الأوهام، سيغموند فروديد، كتاب أفكار لأزمنة الحرب والموت، 1977.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير