زينب الغنيمي تكتب لوطن من غزة: للأسبوع الثاني على التوالي: سكان مدينة غزة يحاولون ابتلاع آلامهم تحت كثافة النيران التي لا تتوقف

13.02.2024 01:45 PM

اليوم الخامس والعشرون بعد المائة لحرب الإبادة على غزة، 8 فبراير 2024

تتصدّر قصص النزوح والتهجير والتدمير الحديث اليومي مجددًا في مدينة غزة، في ظلّ استمرار وجود الجيش الصهيوني الذي يرتكب الجرائم يوميًا ضد الناس، بينما يتبختر جنوده بالعربات العسكرية في شوارع حي الرمال وقلب المدينة من وسطها حتى غربها.

جاءت قريبة صديقتي لزيارتها والاطمئنان على سلامتها وتعزيتها في استشهاد أقاربها. وبعد سؤال السيدة عن أحوالهم، انطلقت في الحديث دون توقّف تشكو لها ضيق الحال، ومرارة النزوح من مكان لآخر، وكيف وجدت البيت الذي عادت إليه أخيرًا نصفه مدمّر، وقالت بسرعة: "الحمدلله إنه ضل في بيت". خبّرتنا أنها وجدت كلّ المواد التموينية مسروقة، بالإضافة لأغراضٍ أخرى، وكيف أن شقّة ابنها محترقةٌ تمامًا، وأنها لا تملك الآن أيّ إمكانية لتأمين الطعام، وعدم قدرتها على توفير رغيف خبز لحفيدتها الصغيرة.

وكلما شرحت عن المشاكل التي مرت بها، وعند انتقالها من مكانٍ لآخر هي وعائلتها، تارةٌ في بيت والدها وأخرى في بيت سلفها، ومرة في بيت خالها، وروت الكثير من المشكلات التي نشأت بينها وبين من نزحت عندهم لأسباب كثيرة، وكيف أنّ أخيها ضرب ابنتها المتزوجة دون سبب، ولكنها تعتبر أن كلّ ذلك لا إرادي، والسبب هو اختناق الناس من الحرب، وكانت تختم حديثها عن كل موضوع روته بنفس الجملة: "إيش بدنا نعمل؟ الحمدلله على كل حال".

شعرتُ بأنها ترغب بالبكاء، بل أحيانًا ربما تريد الصراخ، وأنها تُجبر نفسها لقول هذه الجملة وكأنها تخشى التعبير عن مكنون صدرها. وكأنها تخجل من أن تقول تعبنا من التشرد والنزوح هنا وهناك، وتعبنا من الجوع و الخوف، أو تعبنا من الحرب.

وهذه مشكلةٌ حقيقيةٌ فعلاً يعيشها الناس في قطاع غزة، فهم لا يجرؤون على الإفصاح عن غضبهم من الواقع أو ضعفهم إزاءه. وهذا ما نراه على شاشات التلفزة أيضًا في المقابلات التي يُسجّلها الصحافيون والمراسلون مع الناس، سواء في أماكن النزوح أو المستشفيات أو في الحارات المُدمّرة، فبعد أن يشرحوا معاناتهم، يتراجعون فجأةً ويقولون جُملًا تُعبّر عن قوة الاحتمال والصبر، وهم وهن يحاولون أن يصنعوا بطولاتهم وبطولاتهنّ الصغيرة كي يقنعوا أنفسهم أنهم مازالوا يستطيعون ويستطعن السيطرة على زمام الأمور. وأحيانًا يكون الأمر أنّ الإعلاميين بأسئلتهم الموجّهة يجبرونهم دون أن يشعروا على هذه الطريقة في الرد.

الغريب أن وجع الموت لم يعد يظهر إلا في اللحظة التي يرى الشخص الجسد مسجّى أمامه، أما عند الحديث عن استشهاد شخص ما، فلا تظهر تعبيرات الوجع، بل يكتفي الشخص بطلب الرحمة له.
ترحّمت هذه السيدة التي كانت في زيارتنا على أرواح أقارب صديقتي وأكملت جملتها "الحمد لله على كل حال"، وأخبرتنا عن حوالي خمس عائلات قُصفت منازلهم واستشهدوا جميعًا وهي تردّد نفس الجملة. تحدثت عن مبنى يضمّ نحو 90 فردًا من عائلاتٍ عديدة قُصف بشدّة وتطايرت أشلاء الشهداء منه، وظلّت أثناء الحديث وعلى مدار ساعةٍ كاملة تردد نفس الجملة.

تأمّلت كيف تروي كلّ ذلك دون أن تقفز دمعةٌ واحدةٌ من عينيها، وتذكّرت تعليق إحدى الجارات يوم أمس عندما وقفت على الباب استفسر عن التجمّع أمام أحد المنازل في الشارع بينما كانت إحدى النساء تصرخ بصوتٍ عالٍ من داخل التجمع، حيث ردّت الجارة ببرود "يمكن جابوا شهيد". وعدت أسأل الرجل الذي مرّ من أمامي بعد أن مرّ من أمام ذلك المنزل، فردّ الآخر أيضًا ببرود "أظنّ في شهيد". وسمعت لغط حديث تداوله أكثر من شخص "ليش الصراخ؟ خلص يا جماعة البلد مليانة ناس استشهدوا وأهاليهم مش عارفين وين اندفنوا، احمدوا الله إنكم راح تدفنوا ابنكم".

للأسف، هذا هو الواقع الآن في قطاع غزة، وعندما تناقشت في نفس الموضوع مع صديقتي بعد مغادرة قريبتها، قالت لي: "فعلا شو بدنا نعمل وإحنا لا حول لنا ولا قوة، ومش في إيدنا اشي نعمله، زوجات أعمامي وبناتهن والأطفال مرّ على استشهادهم تلات شهور ومش عارفين ندفنهن ولا نطلع جثثهن، وبنقول الحمد لله على كل حال".

في الحقيقة أشعر بالخوف من هذا الشعور المقيت الذي استولى عليّ وأنا أتمنى أن لا أمرّ بمثل هذه التجربة، ولا أتمنى لأحدٍ أن يفقد قريبًا أو حبيبًا أو صديقًا. كفانا فعلاً ما مررنا به من ويلات، وكفى شعبنا ما عانى منه خلال هذا العدوان البشع الذي نتمنى جميعنا أن يتوقّف في أسرع وقت.

زينب الغنيمي، من مدينة غزّة تحت القصف والعدوان

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير