قراءة جديدة للقسام

18.12.2023 01:51 AM

لا يذكر الشيخ المجاهد عز الدين القسام اليوم، إلا وتذكر معه دلالات واحد من أيام العرب المجيدة في الأزمنة الحديثة، وهو يوم السابع من أكتوبر الذي تحطمت فيه صورة أكثر جيوش الشر في الشرق الأوسط تسليحاً وتجهيزاً، وهو "جيش" العدو الصهيوني ومن خلفه إمبريالية الشر العظمى الأميركية.

تختلط في شخصية القسام أطياف قلما اجتمعت في شخص واحد، ابن الشعب وضميره كما اختلطت لدى أبي ذر الغفاري، والثائر الأممي من طراز جيفارا، العابر للتصنيفات الأيديولوجية.

لذلك، وعلى أهمية ودلالة اختيار هذه الشخصية السورية المجاهدة كرمز وعنوان للجناح العسكري لحركة حماس، فإن ثمة ضرورة لإضاءة المنسي من حياة هذه الشخصية التي يجد فيها كل المناضلين ومن كل التيارات الفكرية والسياسية، شيئاً من أفكارهم وآمالهم، ناهيك بما تمثله للتيار الجهادي المناهض للصهيونية والإمبريالية.

تساعدنا السيرة المتداولة للقسام على تأكيد القراءة المغايرة التي نحاول إبرازها تالياً، فقد ولد عام 1882 في بلدة جبلة في محافظة اللاذقية السورية من عائلة جمعت بين الثقافة الصوفية وبين وشائج اجتماعية مع العديد من قادة حزب الاستقلال الذي تحول من شعار اللامركزية داخل الدولة العثمانية إلى الدعوة إلى إقامة دولة عربية بحدود النفوذ التاريخي لإرهاصات البرجوازية السورية الوطنية، وسيكون من مفارقات رحلة القسام إلى حيفا الفلسطينية تأسيس مسجد باسم مسجد الاستقلال بعد سنوات قليلة من وصول القسام، والذي كان خارج الوصاية التقليدية للمفتي الحاج أمين الحسيني في القدس.

نظراً إلى الثقافة الدينية في عائلة القسام، أرسل إلى الأزهر لتلقي التعليم في مدارسه الإعدادية تحضيراً للمستوى العالي، وأتيحت له الفرصة للتعرف إلى أجواء الأزهر وسجالاته حول العديد من القضايا الإسلامية، التي كان الشيخ محمد عبده من عناوينها آنذاك، وأعتقد أن الشاب القسام كان يتابع ذلك من دون الانخراط فيها، لا سيما أن الشيخ محمد عبده بعد عودته من المنفى إثر اشتراكه في ثورة أحمد عرابي ضد الاحتلال البريطاني، صار أكثر اعتدالاً إزاء هذا الاحتلال.

وهو ما يؤشر على أن الوسط الأكثر تشدداً والتفافاً حول حركة عرابي، رغم خسارتها الحرب مع الإنكليز، كان هو الأكثر تأثيراً على القسام، وهو الوسط الذي كان يجمع بين الثقافة الجهادية ضد المستعمرين وبين العروبة، وكذلك مناهضة الطورانية التركية التي كانت منتشرة بين المسؤولين الأتراك في مصر، وكذلك في إسطنبول حيث اصطدم معهم القسام في رحلته القصيرة إلى تلك الحاضرة.

نشير أيضاً إلى أن تلك الفترة في مصر شهدت تيارات شتى، من الوطنية المصرية بخلفية إسلامية مثل مصطفى كامل إلى ظهور التيارات المبرمجة من جانب الدوائر البريطانية مثل القاديانية والبهائية وغيرهما، ما أيقظ عند الشيخ القسام أبعاداً أخرى إزاء المحتل البريطاني.

بعد عودة الشيخ إلى سوريا وفي مناخات عائلته والشارع الوطني السوري، انخرط في مقاومة المستعمر الفرنسي وأدرك خلال هذه المقاومة حجم العلاقة بين هذا المستعمر وأوساط إقطاعية، فصار ملاحقاً من الطرفين وبدأ وعيه يتشكل على نحو مختلف، ضمن خلفية إسلامية جهادية كما ضمن خلفية تقدمية على الصعيد الاجتماعي، وخلفية وطنية عربية في ضوء الأفول العثماني وهيمنة الاتحاد والترقي الطوراني وعجز إسطنبول عن توفير إسناد حقيقي لثورة عمر المختار في ليبيا، التي شارك فيها القسام أيضاً.

هكذا، وفي ضوء أكثر من تجربة ضد المستعمر الأوروبي، الفرنسي في سوريا والإيطالي في ليبيا، إضافة إلى انطباعاته حول المستعمر البريطاني في مصر، وتشبيكات كل هذه المتروبولات الاستعمارية مع الإقطاع وبيوتات مالية محلية، راح القسام يتشكل كواحد من العناوين المبكرة لحركة التحرر الوطني ومشروعها على مستوى الأمة، وكان على اليسار العربي أن ينتبه جيداً إلى هذه التجربة في ضوء إشارات قائد ثورة أكتوبر الاشتراكية الروسية، لينين، وهو يحذر اليسار في شرق العالم وجنوبه من الطفولة اليسارية التي لا تحترم روح الشرق وثقافته وطاقاته الوطنية الكامنة وضرورة ابتكار جبهات وطنية تلحظ دور هذا النمط من التيار الجهادي، الذي سبقهم في معارك التحرر، مشيداً (أي لينين) بشخصيات إسلامية جهادية في المغرب والجزائر وسوريا.

انطلاقاً من هذه التجارب ومن رؤية القسام المذكورة، شدّ رحاله إلى فلسطين بالتزامن مع موجة سورية-لبنانية-أردنية من المجاهدين، كان من عناوينها ورموزها القائد سعيد العاص ابن حماة والحزب السوري القومي الاجتماعي، الضابط السابق في الجيش العثماني، والمشارك لاحقاً وحتى الاستشهادي في فلسطين، في كل الثورات السورية ضد الاستعمار الفرنسي.

وحيث اختار سعيد العاص القتال إلى جانب عبد القادر الحسيني، مؤسس الجهاد المقدس، رغم أنه كان عضواً في الحزب السوري القومي الاجتماعي، اختار القسام مدينة حيفا تحديداً، وخاصة مسجد الاستقلال فيها مركزاً لدعوته ونشاطه بين العمال والفلاحين خصوصاً، وفي ذهنه الاعتبارات الآتية:

-  ما تمثله حيفا كميناء لحركة الجيوش البريطانية والمستوطنين اليهود، وللتجارة على طريق الهند الشرقية.

- ما تمثله حيفا كتجمع للعمال العرب، من فلسطين وخارجها، وبما يساعده على نشر فكرة الثورة في كل المنطقة.

- حزام القوى الفلاحية حول المدينة الذي وفر فرصة للاقتراب من الفلاحين الفقراء واجتذابهم إلى الثورة.

- أهمية المدينة كمركز للهجرة الاستيطانية اليهودية وللجماعات التبشيرية للمذاهب التي تديرها المخابرات البريطانية، وخاصة ما يعرف بالصهيونية المسيحية.

- وثمة اعتبارات أخرى تصب كما الاعتبارات السابقة في المنظورات الاستراتيجية لهذا الشيخ المجاهد ورؤيته ومقارباته للصراع في المنطقة كصراع تناحري ضد تحالف المستعمرين الأوروبيين والحركة الصهيونية وأتباعهم من الإقطاعيين والسماسرة.

ومن تابع أدبيات الحركة السياسية العربية بعد ذلك وحتى اليوم، لوجد أن خطاب القسام متقدم على خطابات عديدة، بالدم والممارسة ويتقاطع حقاً مع البؤر الجيفارية التي سعى الثائر الأممي اليساري، جيفارا، إلى تعميمها حيثما توجد الإمبرياليات وربيبتها الصهيونية وبيوتات المال وقوى التبعية.

فلم يكتف القسام بفضح هذه القوى والتنديد بها ولم يغفل عن خطر المستعمر الأوروبي، وهو يحذر من الخطر الصهيوني ويدعو إلى الاستعداد لمواجهته، بل دعا إلى الاشتباك الميداني المباشر مع هذه القوى.

الكاتب: موفق محادين

المصدر: الميادين

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير