فلسطين واليمن: زواج الملوك والقلوب
كتب د. محمود الفطافطة: ما أن تعرفنا على بعض؛ هو من بلد اليمن السعيد، وأنا من الأرض المقدسة فلسطين، مازحني قائلاً: أهلاً بالنسب! لم يخطر في ذاكرتي دلالة هذا القول لأسأله بتلهف: ماذا تقصد؟ "فأجاب: أليس النبي سليمان تزوج الملكة بلقيس؟ فقاطعته لأُكمل ما يود إكماله قائلاً: صدقت، النبي سليمان الملك والحكيم منا وبلقيس منكم؟ فضحك ليقول: إذا نحن نسايب فأجبته: نعم النسب ونعم الملوك ونعم الأوطان.
هذا اللقاء الذي كان في الحرم المكي عام 2009، أثناء تأدية شعائر العمرة، يُذكرني بما نحن فيه هذه الأيام من قيام شعبنا الفلسطيني بتسطير أعظم الملامح في التاريخ الثوري والكوني ضد أبشع احتلال عرفته البشرية، وعلاقة ذلك بأولئك الذين يشدون من أزر هذا الشعب في ملحمته التاريخية.
الفلسطينيون، في معركتهم الكبرى، يُخلدون مقاومتهم لعموم العالم المستعمر والظالم؛ متجسداً بأداته: إسرائيل النازية، وبكافة داعميها؛ بدءاً من أميركا المارقة، مروراً بالغرب العنصري الامبريالي، وصولاً بكثيرٍ من قادة العالم والعرب العاجزين في بعضهم، والمتآمرين في بعضهم الآخر.
ورغم مرور الشهر ونصف الشهر على ما يتعرض له قطاع غزة من الإبادة الشاملة على أيدي النازيين الجدد، فإننا لم نجد من ينجد أو يساند الشعب الفلسطيني إلا القلة القليلة الذين نبرق لهم التحية والشكر الممدين بالانتماء والوفاء، وفي المقدمة حزب الله، والأحرار في العراق واليمن الذين يطلقون صواريخهم صوب القواعد العسكرية والمصالح التجارية التابعة لأميركا وإسرائيل في المنطقة، والتي كان آخرها استيلاء الجيش الحوثي في اليمن على سفينة تجارية إسرائيلية في البحر الأحمر واقتيادها، وبمعية 22 فرداً، إلى الشواطئ اليمنية.
وبالحديث عن اليمن، فإن هذا البلد الذي يتعرض منذ أكثر من عقدٍ من الزمن لصراعات داخلية شديدة على الحكم والموارد والتوجهات، يمثل نموذجاً عربياً وإسلامياً يتعاطى مع قضايا أمته رغم فقر أهله وصراعات أمراء الحرب والسياسية فيه. وكثيراً ما كانت تخرج المسيرات بمئات الآلاف في كافة محافظات اليمن تضامناً واسناداً للشعب الفلسطيني في مراحل الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين، وخاصة على قطاع غزة، أي منذ عدوان العام 2008، ولغاية الأن.
إنه اليمن: بلد الكرم والكرامة والايمان والمحبة، حيث قال رسولنا الأكرم في حقهم: " أهل اليمن هم مني وأنا منهم". هؤلاء هم العرب الأقحاح، والمسلمين الأنقياء. هؤلاء، هم أهل اليمن الذين قاتلوا أهل الردة، وفتحوا الأمصار. أي أنه كلما ضاق الأمر بالمسلمين يأتي أهل اليمن ليذودوا عن حياض المسلمين وينفسوا كرباتهم وينتصروا لله وللمسلمين. وفي هذا جاء قول الرسول عليه السلام: "إن الله استقبل بي الشام، وولي ظهري اليمن، وقال لي: يا محمد، إني جعلت لك ما تجاهك غنيمة ورزقاً وما خلف ظهرك مدداً".
إنهم أهل اليمن الذين مدحهم الرسول بمعية أهل الشام، وذلك بقوله:" اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا، قالوا: ونجدنا، قال: اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا، قالوا: يا رسول الله! وفي نجدنا، فأظنه قال في الثالثة: هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان".
إنها اليمن التي ذكرت في القرآن، حيث حملت سورتين من سور القرآن أسماء مناطق فيها (سبأ، الأحقاف)، ووصف الله اليمن بأنها (جنة، وبلدة طيبة) ولم يطلق على أي أرض هذا الوصف في القرآن غير اليمن. كما ذكر القرآن العديد من القصص، نالت أرض اليمن ورجال اليمن نصيباً كبيراً منها، ومن تلك القصص: قصة أصحاب الجنة، قصة أصحاب الأخدود، إرم ذات العماد، قصة نبي الله سليمان عليه السلام وملكة سبأ، قصة السيل العرم، قصة ذو القرنين، قصة الفيل وأبرهة ومحاولة هدم الكعبة، وغيرها. وعلاوة على ذلك، يوجد في اليمن عدد من قبور الأنبياء الذي يعتقد عدد من الباحثين اليمنيين والعرب حقيقتها ومنهم عليهم السلام: الأنبياء نوح وأيوب وهود وصالح وشعيب.
إنها اليمن التي تتلاقى مع فلسطين في طيب ترابها، وطيبة أهلها، وبسالة رجالها، وشهامة أحرارها، وعظمة حرائرها، ونبل علمائها، وانتماء أطفالها. إنها اليمن التي تتسامى مع فلسطين في الدفاع عن الإسلام كدين الدنيا، وعن الرسول كنبي العالمين، وعن الشعوب المقهورة كواجب قويم، وعن الأوطان المسلوبة كدفاع لا يموت.
الحديث عن اليمن وأهلها وما قدموه لقضيتنا ولقضايا امتنا العربية والإسلامية كثير جداً، أليس أصلنا جميعاً، نحن العرب، من اليمن؟ إنها الموطن الأول للجنس البشري على الأرض، ونقطة التجمع والانطلاق الأولى للهجرات البشرية. إنها أرض العرب الأولى، والشعب اليمني هو أصل الجنس العربي، واليمنيون هم أول من تكلم باللسان العربي، فقبائل اليمن الشهيرة (عاد، وثمود، وطسم، وجديس، وجرهم، والعمالقة، وأُميم.. وغيرها) هي قبائل العرب القديمة التي انتشرت في الجزيرة العربية، والعراق، والشام، ومصر، وشمال إفريقيا، والقرن الأفريقي، وغيرها وظهر منها العرب العاربة قبائل قحطان والعرب.
إنها البلد الذي أنجبت قبيلة جرهم الشهيرة، والتي تعتبر أول من سكن بأرض مكة، وهي من آوت إليها نبي الله إسماعيل عليه السلام، وأمه هاجر، ومن نسلها جاءت قريش، وهم من بنى الكعبة مع أنبياء الله إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، وتزوج نبي الله إسماعيل من بناتها، ومن ذريتهما جاء نبي الله محمد عليه الصلاة والسلام.
كل هذه الصفات لأهل اليمن تتعانق مع صفات أهل فلسطين. البلدان جمعتهم الديانة الواحدة، والتاريخ المشترك، واللغة الواحدة، والهدف الواحد، والمستقبل الواحد، كذلك، المرتبط بحرية فلسطين وأهلها، لأن تحقيق ذلك هو تحقيق لأمل وتطلعات شعب اليمن العظيم.. بارك الله في اليمن كما باركها الله ورسوله... بارك الله في كل من يحمل سلاح الإخلاص ليدافع به عن فلسطين وأرضها وأهلها... بارك الله في كل من خلصت نواياه، وتوحدت أهدافه خدمة لقضايا أمتنا، وفي مقدمتها فلسطين. ربطتنا واليمن منذ آلاف السنين النسب؛ ليبقى ذلك الرباط العظيم في أعناق اليمينيين حباً لفلسطين وأهلها، وها هم يجسدونه اليوم، بصورةٍ أخرى، عبر إسنادهم ملحمة فلسطين الكبرى بفعلٍ ثمين، وعون يُثمن.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء