الجَوْلان... الجَنَّةُ المقفلة والْفِرْدَوْس المُحْتَلُّ
وطن- خالد أبو علي: "جلسنا تحت الجرف الصخري البازلتي بعد مسار طويل وشاق، وكان الشلال الجولاني يصرخ على طريقته، فما تلبث أن تنسكب الهموم إلى قلب الأرض ما أن تتساقط قطرات الماء الباردة المتلألأة اللامعة على أجسادنا. لقد تمنيت لو أُني سمكة تنساب مع جداول المياه الرقراقة حتى أعيش لحظات الجمال الآسرة، أو أن لدي ريشة وألوان لأرسم لوحة الطبيعة الفاتنة، كنت أنظر بذهول إلى الأعلى، نحو الشلال، حيث تدّفق الماء إلى جوفي، فغسل كل التعب الذي عانيناه من الجو اللاهب" الناشط البيئي رامي كتانة.
تعد مرتفعات الجولان التي اُحتلت في حرب حزيران 1967 منطقة إستراتيجية، حيث تطل على شمالي فلسطين التاريخية ومناطق في الأردن ولبنان، وتبعد 60 كم إلى الغرب من العاصمة السورية دمشق.
يبدأ المرشد والدليل البيئي أكرم شعبان حديثه بتحليل لغوي لــ "الجَوْلان"، قائلاً: "هي كلمة مُشتقة من الفعل (جال/ يجول) وهي مرتبطة بالتنقل والترحال، وتعني أيضًا المكان المرتفع، وقد أُطلِقَ عليها أسماءٌ أخرى من نفس الجنس باختلاف لغة من مرّوا بها، ففي اللغة الآرامية عُرفت بـ "جيلان أو جلانا أو جولانا"، وأسماها اليونانيون (جولانيتس)، وتحوّلت في العصر الروماني إلى (جولانيتيد)، وهذا يدل على قِدم الاسم، وحضور هذه المنطقة بقوة في التاريخ الإنساني، ودورها المهم في حقب زمنية مختلفة".
أقسام هضبة الجَوْلان
تُقسّم هضبة ومرتفعات الجولان إلى ثلاث مناطق طبيعية، وتقدّر المساحة الإجمالية لها بـ 1860 كم2، وتمتد على مسافة 74 كم من الشمال إلى الجنوب دون أن يتجاوز أقصى عرض لها 27 كم، يخضع ثُلثاها للسيطرة الإسرائيلية، وتعد الهضبة أرضًا زراعية خصبة، كما أنها مورد مهم من موارد مياه الينابيع والأنهر الجارية طوال السنة، مما جعلها تتوّشح بالأخضر حتى في فصل الصيف، إذ تتساقط مياه الأمطار من مرتفعات الجولان نحو نهر الأردن، كما تصب عديد من الشلالات وعيون الماء في بحيرة طبريا.
وبشأن هذه التقسيمات للمناطق الطبيعية، يشرح الناشط والمرشد البيئي محمد كحيلة: "في الجزء الشمالي من الجولان تقع أرض الوعر وتمتد من وادي السعار حتى "وادي الجلبون"، بارتفاعات تراوح بين 1200م و700م، مناخها بارد رطب وماطر، إذ يصل معدل الأمطار إلى أكثر من 1000 ملم سنويًا، وتكثر في هذه المنطقة التلال البركانية مثل "تل الغرام"، و"تل أبو الندى"، كما يصل سُمك البازلت فيها إلى مئات الأمتار، ويكثر في هذا القسم زراعة التفاح والكرز، وتُربى فيها أبقار الحليب بكثرة.
أما القسم الثاني وسط الجولان ويُسمى بــ "أرض البور" أو أرض البقر، وذلك لأن سطح هذه المنطقة صخري، كثير الحجارة، يصلح للمراعي، ويعرف عنه أنه من أغنى المناطق بالثروة الحيوانية في البلاد.
ويمتد هذا القسم بين وادي الجلبون في الشمال ووادي السمك في الجنوب، وهو يعد "منطقة هضبة" تقريبًا يراوح ارتفاعها بين 600 م و700 متر عن سطح البحر تنحدر تدريجًا نحو الغرب لتصبح أقل ارتفاعًا، بالقرب من بحيرة طبريا، تقطعها أودية وأخاديد تصب جميعها في شمال شرق البحيرة، تتكون الشلالات العالية خلال جريانها غربًا، وتجري فيها كميات هائلة من المياه في فصل الشتاء.
ويواصل كحيلة حديثه معنا بالقول: "أما جنوب الجَوْلان فيُطلق عليه اسم "أرض القمح"، حيث أن عمق التربة وكمية الأمطار الهاطلة عليها وسطحها المستوي جعلها ملائمة لزراعة الحبوب، وهذا القسم عبارة عن هضبة مستوية السطح تمتد من وادي السمك حتى أخدود اليرموك جنوبًا، مغطاة بتربة بازلتية خصبة عميقة ملائمة للزراعة، لذا فهي أوسع منطقة في الجولان، وترتفع المنطقة ارتفاعًا يتفاوت من 350 م إلى 450 م عن سطح البحر.
جيولوجيا الجولان البازلتية
مرتفعات الجولان السوري هي عبارة عن هضبة صخرية تنتشر فيها الصخور البازلتية بكثافة إذ تنتج عن الانفجارات البركانية، التي بدأت في جنوب الجولان قبل ملايين السنين، وحسب خبراء الجيولوجيا فقد وقع آخر انفجار بركاني في الجولان قبل أربعة آلاف عام في شمالي شرقي الجولان، وتعد هضبة الجولان اليوم منطقة بركانية "نائمة" قد تنشط يومًا ما، وهضبة الجولان أرض زراعية خصبة تحتوي على الكثير من الموارد الطبيعية، ويشتهر أهلها من العرب السوريين بزراعة أشجار التفاح والكرز والكرمة واللوزيات.
العوينات الجنوبية
بدأ الفريق مساره البيئي الاستكشافي صباح يوم الجمعة الموافق 11 آب 2023، من هضبة الجولان نحو قرية العوينات الجنوبية، وهي إحدى القرى السورية المهجّرة التابعة لمحافظة القنيطرة في الجولان السوري المحتل بجنوب غرب سوريا.
ويُعتقد أن تسميتها تعود لكثرة عيون المياه العذبة المنتشرة في مختلف أرجائها، وعند تجوالنا لاحظنا أن أغلب البيوت دُمرّت كاملة باستثناء مسجد القرية الذي كان في حال يرثى لها، وما زال صامدًا رغم مرور أكثر من نصف قرن على تدمير القرية.
واستكمل الفريق مساره هبوطًا على أدراج بازلتية محفورة في الصخر، نحو وادي "جيلبون" وهو واحد من جملة أودية دائمة الجريان في هذه الهضبة، وهو يشقّ طريقه بين الصخور البازلتية، مكوناً الشَّلالات الهائلة، وبِركاً واسعة عميقة باردة، وجداول تنساب بين الكتل الصخرية، وعلى الجوانب والأطراف "أدغال" من النباتات والشجيرات الكثيفة.
بدا الناشط البيئي عماد طاطور من بلدة الرينة في الجليل الأسفل سعيدًا بمشاركته في المسار، فقال: "بعد سير استمر لخمس عشرة دقيقة هبوطاً بين الصخور البازلتية في الوادي، صعدنا إلى شرفة تطل على شَّلال "الدَّبُّــورة" الذي تتساقط مياهه من ارتفاع 12 متراً إلى بِركة عميقة تقع أسفل الشَّلال، محاطة بالنباتات البرية، ويصبّ فيها الشلال وهي منطقة طبيعية مذهلة، وبعد الاستمتاع بالمظاهر الخلابة أكملنا السير بين الصخور الضخمة والنباتات والشجيرات نحو "وادي الدبـورة" متجهين نحو الغرب".
قرية الدَّبُّــورة المهجرة
الدَّبُّــورة هي قرية سورية تقع على بعد 20 كم جنوب غرب مدينة القنيطرة، الواقعة على الحافة الغربية لهضبة الجولان، في أراضٍ حراجية، وتكثر فيها أشجار الكينا والسدر والسنديان ومختلف أنواع الأشجار والنباتات.
يقول الناشط البيئي حمودي خلايلة: " تجوّلنا بين بقايا أبنية القرية القديمة والمتهدمة المنتشرة في كل مكان، وشاهدنا بقايا أقواس جميلة متقنة وقاعات كبيرة، وأعمدة وأحجار منقوشة ومزخرفة، ويبدو أن سكان القرية كانوا من الأثرياء حيث عمل سكانها في زراعة الحبوب، إلى جانب تربية المواشي، وكانوا يعتمدون في شربهم على مياه الينابيع المنتشرة في المكان".
"الدَّبُّــورة" واحدة من عشرات القرى في هضبة الجَوْلان التي وقعت تحت ظلم التهجير القسري، بهدف إفراغها كاملة، ما أجبر أهلها على النزوح باتجاه العمق السوري من العاصمة دمشق، وذلك في حرب الأيام الستة أو ما يُسمى بنكسة حزيران عام 1967.
وادي الفَجَّــار ومعزوفة الشَّلالات
واصل الفريق السير متجهًا نحو الغرب، وبعد مسير استغرق قرابة الساعة وصل إلى مطلّ جميل يشرف على وادي الفَجَّــار.
هبط نحو الوادي السحيق بين الصخور البازلتية على وقع أنغام صوت الشَّلال الهادر، إلى أن وصل إلى أسفله، إذ يبلغ ارتفاعه نحو عشرة أمتار، لقد وجدَ حلاوة الدنيا في صخب المياه وعنفوانها.
سار الفريق بين شجيرات العلّيق الكثيفة وأشجار التين والرُمان والعبهر والكرمة نحو المَسْقَط المائي الخلاب، باتجاه الشَّلال الأول والثاني والثالث والرابع، حيث سمع معزوفة الطبيعة الساحرة في أرّق معانيها.
مسجد "الخَشْنيـة"
استكمل الفريق تجواله في اليوم التالي، مُولّيًا وجهه نحو "قرية الخَشْنيـة"، وهي قرية سورية مُهجّرة تابعة لمحافظة القنيطرة، وقعت تحت الاحتلال الإسرائيلي بعد حرب حزيران عام 1967 م.
أرض القرية بركانية بازلتية وعرة، ففي الجزء الجنوبي منها يقع "تل الفرس" الأثري، الذي وُجدت فيه مكتشفات من العصور الرومانية والبيزنطية والإسلامية، واعتمد سكانها الذين كانوا في معظمهم من أصول شركسية على زراعة الحبوب والتين وتربية الأبقار والأغنام.
لم يتبقّ من القرية المدمرة سوى آثار المسجد الذي تجولّنا في أرجائه، حيث دُمرّت بعض جدرانه جراء قصفه بالقذائف، وصعدتُ إلى مئذنته التي ما زالت منتصبة شامخة، على الرغم من الأضرار الجسيمة وآثار الرصاص التي كانت ظاهرة على حجارتها. ومن علو 65 درجة حجرية، كان لنا إطلالة على الفضاء المحيط بقرية الخَشْنيـة المهدّمة.
قرية "الرّمْثانية" المهجرة
بعد سير استمر بطول ثلاثة كيلومترات، وفي أجواء حارة جدًا وصلنا إلى "قرية الرّمْثانية" السورية المهجّرة، والتي كان لها تاريخ عريق يفوح برائحة الوحدة وشبح الصمت.
تضاريسها الطبيعية الخلابة والمتناسقة وأزقة بيوتها التي تجولّنا فيها تحكي للعالم أجمع، تفاصيل ظلم وقع عليها بعد أن رُحّل أبناؤها عن أرضها.
شاهدنا النباتات والأشجار البرية الموزّعة بين البيوت، وقد نمت وخرجت سيقانها من جدران منازل "الرّمْثانية" وهي التي كانت موفورة الخيرات بسبب نشاط سكانها، واتساع حقولها ذات التربة الخصبة، وتنوّع ثمار بساتينها من أشجار الرمان، والجوز، واللوز، والتوت، والتين الذي أكلنا منه بمختلف أنواعه وأصنافه.
"الرّمْثانية" هي إحدى القرى التابعة لناحية "الخَشْنيـة" في محافظة القنيطرة في هضبة الجَوْلان بجنوب غرب سوريا، وتقع القرية جنوب مدينة القنيطرة بمسافة 13 كم، وترتفع عن سطح البحر حولي 812 مترًا، وعلى ظهر تل أثري في أعلاه قلعة تمتد القرية ذات الأبنية القديمة التي بُنيت من الحجارة البازلتية في العهد الروماني الثاني، ومن هنا جاء اسمها "الرّمْثانية"، وفي الجزء الشمالي منها تُوجد مبانٍ وجدران مبنيّة بحجارة كبيرة عليها كتابات يونانية.
يخبرنا الدليل البيئي عبد الفتاح حجة عما رآه في هذه الرحلة: "وجدنا عند تجوالنا في القرية مبنى كبير ربما كان الأجمل في "الرّمْثانية"، يُقال إن صاحبه مختار القرية، مدخل أبوابه مُزيّن بالصلبان المنحوتة وعناقيد العنب، وفي داخله قاعة قناطر واسعة ومزدوجة، وتظهر على جدرانه المنقوشة كتابات يونانية في وسطها شجرة نخيل ونقوش مختلفة، ولا تزال أرضية المبنى الحالي مرصوفة بحجارة بازلتية مشذبة".
ويضيف حجة: "كان البيت مسقوفاً بكتل بازلتية بطول ستة أقدام، وتقع أكوام من حجارة البناء بالقرب منها وفوقها، وربما كانت من الحقبة الأقدم، وحجارة البناء المستخدمة فيه جميعها منحوتة بعناية من البازلت".
فيما تخبرنا بعض أجزاء مبنى حجري مهدم ومسوّر يقع عند الرأس بأن " البناء أقيم في العصور الإسلامية من خرائب مبانٍ مسيحية".
عين القَصَبيــة
القَصَبيــة هي إحدى القرى المحتلة والمدمرة التابعة لمركز الخَشْنيـة في محافظة القنيطرة في هضبة الجولان جنوب غرب سوريا.
تقع هذه القرية في القطاع الأوسط من الجَوْلان، وهي مشهورة بموقعها الإستراتيجي الذي تطلّ بواسطته على فلسطين وبحيرة طبريا والحمة والأردن، علمًا أن كثرة منابع المياه فيها أعطاها مكانة خاصة، ولأهمية هذه المياه الجوفية والينابيع التي تحتوي على نسبة كبيرة من المواد المعدنية الآتية من طبقات الأرض، إذ تُستخرج وتُسحب أغلب مياه "عين القَصَبيــة" لصالح شركة "مياه عيدن" الإسرائيلية التي تعبّئ هذه المياه المعدنية بعبوات بلاستيكية للبيع.
ويصف الأجواء الناشط البيئي فواز حسين ابن قرية حرفيش الذي رافقنا إلى هذه العين: "تجولّنا في مسار قصير وجميل نحو منبع العين في قرية القصبية المهجّرة، ومشينا على طريقٍ مرصوفة بالحجارة البازلتية تظلّله الأشجار الوارفة، حيث الشَّلالات الصغيرة والبِرك والمياه الصافية".
شلال النخيــل
في طقس شديد الحرارة، أخذ الفريق أيضًا جولة في "وادي طيبـة" شديد الانحدار عبر صخور متعرجة والتواءات كثيرة، وزحفنا بين الأشجار الكثيفة، وفجأة وجد الفريق نفسه أمام شلال النخيل العالي الذي تحيطه أشجار التين والتوت ونباتات البوص، والأشجار البرية الواقعة في محيط القرى السورية المهجّرة "الطيبة واليعربية والعمودية والنخيلة".
مرة أخرى عدنا إلى الناشط البيئي عماد طاطور الذي وضع مسك ختام الجولة بالقول: عندما وصلنا إلى شلال النخيـل، لاحظنا ازدياد سرعة المجرى المائي عند حافة الشَّلال الذي حتَّ الصخور البازلتية السوداء والكلسية الصلبة التي لا تلبث أن تتآكل وتتكسر وتتهاوى، في حين يحمل المجرى المائي الحصى والحجارة والأتربة نحو الأسفل لتشكل حاجزًا طبيعيًا يقف عائقاً في طريق الماء، ويؤدي إلى تشكّل بِركة عميقة سبحنا فيها، حيث استمتعنا بنقاء المياه المحاطة بمختلف أنواع الأشجار البرية".
خاص بآفاق البيئة والتنمية